تأمّلتُ واقعَ بلدي هذا فوجدتُ العدلَ فيه قد عزّ، والحق رحَل، والسياسة أمستْ سوقًا تُباع فيها الذّمم، ويُسألُ عن أثمان الهمم، ثم الوطنية صارت أكبر كذْبة في الوطن كما قال [نيتشه] منذ ما يزيد عن قرن ونيّف، وكان في ذلك أصْدق ممّن يُصلّون بلا خشوع، ويركعون بلا ورع، ويتحدّثون بلا عمل، حسبوا صلاتهم تقرّبهم إلى الله، فيما هي عنه تبعِدهم، والله بوجهه العزيز يشيح عنهم.. يقول [جبران خليل جبران] في كتابه [العواصف]؛ صفحة (57) ما نصُّه: [دخلتُ منازلَ الأغنياء الأقوياء، وأكواخ الفقراء والضعفاء، ووقفتُ في المخادع الموشّاة بقِطَع العاج، وصفائح الذهب، وفي المآوي المفعمة بأشباح اليأس، وأنفاس المنايا، فرأيتُ الأطفالَ يرضعون العبودية مع اللّبن، والصبيان يتلقنون الخضوعَ مع حروف الهجاء، والصّبايا ترتدين الملابسَ مبطّنة بالانقياد والخنوع، والنساء تَهْجعْن على أسِرّة الطاعة والامتثال..]..
ما أغرب ما لقيتُ من أنواع العبوديات، ومن أشكالها العبوديةُ العمياء، وهي التي توثق حاضرَ الناس بماضي آبائهم، وتجعلهم أجسادًا لأرواح عتيقة، وقبورًا مكلسة لعظام بالية.. والعبودية الخرساء، وهي التي تعلّق أيام المواطن بأذيال حكومة وبرلمان يمقتُهما، وباسم المواطن يُجلَد ظهر المواطن، ويُحْرَم قوته، ويضاف إلى ما كنزه الوزيرُ، والبرلماني في حال شاذّ، لا تخطئه العيـنُ، يحسبه المواطن إصلاحا، فيما هو هلاكٌ، ودمار، باسم ديموقراطية، صارت خدعة، يضحكون بها على شعوب العبودية الخرساء.. والعبودية الصّماء؛ وهي التي تُكْرِه المواطنَ على اتّباع مشارب محيطهم، والتلوّن بألوانه، والارتداء بأزيائه، فيصبِحون من الأصوات كرجْع الصّدى، ومن الأجسام كالخيالات ليس إلا؛ فيقرّرون للوزير والنائب تقاعدا بالقانون، وينتقصون من تقاعُد الكادح بالقانون، وكلا القانونين ظلمٌ، وجرمٌ، ثم الكل أصمّ، مواطنٌ، ورجل دين، وجمعية حماية المال العام.. والعبودية العرجاء؛ وهي التي تضع رقابَ الأشدّاء تحت سيطرة المحتالين المتحزّبين، وتسلمُ عزْمَ الأقوياء إلى أهواء الطامعين بالمجد والاشتهار، فيُمْسون مثل آلات تحرّكها أصابع من وراء الستار، فترى محاكمات مسرحية لإشغال العقول، فيما المدافعون عن تقاعُد بعْد (صفة لا مهنة) هم أحقّ بالمحاكمات لخطورة ذلك على أمّةٍ بأسرها..
ثم ماذا؟ العبودية الشمطاء؛ وهي التي تهْبط بأرواح الأطفال من الفضاء المتّسع إلى منازل الشقاء، حيث تقيم الحاجةُ بجانب الغباوة، ويقطن الذّل في جوار القنوط، فيشبّون تُعساء في أقسام مكتظّة تارة، وتارة أخرى خاوية على عروشها، أو في أحضان الشذوذ الذي تتّسع رقعتُه، أو في حرف قاتلة أو صعبة، أو في فيالق الإرهاب، أو في ميدان السرقات، فيعيشون مجرمين، ويموتون مرْذُولين، فتتحسّر عليهم جمعياتٌ كذّابة بلا دموع، وتصْدر بيانات، وتشْعل بطريقة رهبانية كل أنواع الشموع.. ثم العبودية الرقطاء؛ وهي التي تبيع الأشياء بغير أثمانها، وتسمّي الأمورَ بغير أسمائها، فتدعو الاحتيالَ ذكاءً، والثرثرة معرفةً، والضعفَ لينًا، والجبانة إباءً؛ كيف ذلك؟ ألا تسمع كرامة المواطن، وقوتَه، والمحروقات في المغرب هي أغلى ما يوجد في العالم.. ألا تسمع المغرب الأخضر، ونزول المطر، والخضَر تساوي ذهبا في بلد التنمية المستدامة.. وفي عالم الثرثرة، ألا ترى محلّلين في كل حلقة تلفزية، يُعطَى لهم تخصُّصٌ مختلفٌ، وتتغيّر التسمية، فيمطرونك بوابل من أشباه الألفاظ الفارغة مثل: الدّمقرطة؛ والمأسسة؛ والأجرأة؛ والهيكلة؛ والإصلاح؛ الموروث؛ والتخليق؛ ثم حلّت أخيرا لفظة (التحرش)؛ كما حلّت لأغراض ذات يوم لفظة (إنفلوانزا الطيور) الكاذبة لبيع حبّات دواء [طاميفْلو] للمواطنين، ضحايا أشباه ألفاظ التلفزيون..
وماذا عن العبودية العوجاء؟ العبودية العوجاء تذكّر بفقيه كذّاب، يدعى [ابن أبي العوجاء]، كان الناس يبجّلونه، فصوَّمهم بالكذب يوم فِطْرهم؛ وفطّرهُم يوم صوْمِهم؛ فحرّم الحلالَ، وأباح الحرام، تماما كما حرّم [العثماني] تقاعُدَ الكادحين، وأباح تقاعُد الباذخين، من أموال المسلمين، وكلّ شهر يصيب وزُمْرتُه عشرات الملايين، على حساب الفقراء والمساكين.
العبودية العوجاء تلْجم أفواهَ المسحوقين، فيتظاهرون بما لا يُضمِرون، ويُصْبِحون عبيدًا بين أيدي الوزراء الفاشلين، مثل ثوب تطويه وتنشره.. هل سمعتَ يوما ديكتاتورا أراد أن يصلح الإدارة دون أن يصلحَ أحوال وظروف عيش الموظّفين أوّلا؟ فهذا الديكتاتور [خوان بيرون] في (الأرجنتين) زاد في أجور الموظّفين، والعمّال بنسبة (%40) قبل أن يباشر الإصلاح؛ فما رأيُ الكذَبة والمحتالين الديموقراطيين؟ ثم ماذا؟ العبودية الحدباء؛ هي التي تقود قومًا بشرائع قوم آخرين، كالإخوانيين، والوهّابيين، والبنك الدولي، وفرنسا.. والعبودية الجرباء؛ وهي التي تتوّج المتحزّبين وزراء.. والعبودية السوداء، هي التي تعيث فسادًا في أقوات العباد، وبلدُنا معْرض خصْب لكل أنواع العبوديات في بلد المغاربة النبلاء..
فارس محمد