يونس دافقير
تأتينا هنا في المغرب، ومن العالم المحيط بنا، رسائل جيوستراتيجية واضحة. إنها تتعلق بمصيرنا ونوعية النظام السياسي الذي يمكن أن نتسلح به بين أمم تتصارع للانقضاض على الدول الوطنية، وبمنطق واضح يحكمه قانون أن القوي يلتهم الضعيف.
لم تكن احتفالات الروس بفوز فلاديمير بوتين بولاية رابعة على رأس الفيدرالية الروسية مجرد انتشاء بنصر انتخابي. فمن موسكو إلى بيكين وأنقرة وحتى واشنطن دونالد ترامب، تبصم الأنظمة الرئاسية على عودتها بقوة إلى واجهة النظم السياسية.
منذ سنوات طوال وبوتين يشتغل على استعادة المجد الروسي، ورد الاعتبار للقومية الروسية، تماما مثله مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تفرغ لدفع الأتراك نحو الواجهة الدولية من موقع القوة السياسية والاقتصادية، أما الرئيس «شي جين بينغ»، فقد نجح في أن يجعل من الصين قوة عالمية عظمى.
لقد نجح بوتين، رغم كل الجدل المثار حول حجم شرعيته الانتخابية، في أن يجمع حوله الشعب الروسي، وأن يبني نظاما سياسيا رئاسيا استعاد لروسيا هيبتها. أما صديقه وحليفه أردوغان، فقد أتقن التحول من رئيس للوزراء إلى رئيس للدولة بصلاحيات قوية، وما أمكن له ذلك لولا أنه أعاد هيكلة البناء الدستوري التركي في اتجاه تقليص الطابع البرلماني لصالح سلطة رئاسية أبانت أحداث المحاولة الانقلابية الفاشلة أنها تكاد تكون مطلقة، لكنها مفيدة للتموقع التركي في المنطقة.
وداخل التوجه نفسه، أقر البرلمان الصيني تعديلا دستوريا يلغي فترة الولايات الرئاسية المحدودة، الكل فهم حينها أن الصينيين يفتحون أمام الرئيس «شي جين بينغ» أبواب حكم مدى الحياة. وكان لافتا أن يكون دونالد ترامب أول المهنئين له، بل ويقول بما يبدو اليوم سخرية، لكنه قد يصير حقيقة غدا، بأنه يتمنى أن يجرب الأمريكيون ذلك يوما.
في عالم متوتر يعاد تشكيله بقوة، يبدو أن شعوبا في العالم قد اختارت أن تستدعي النظم الرئاسية بدل الديمقراطيات البرلمانية. ومن اللافت أن كل هؤلاء الرؤساء الذين يعودون اليوم بقوة إلى عروش السلطة، هم مدينون في جزء كبير من ذلك إلى سياساتهم الخارجية، والنجاحات التي حققوها وجعلت بلدانهم تستعيد عافيتها الدولية.
ويحدث ذلك بينما الديمقراطيات البرلمانية تعيش أسوأ أيامها في أوروبا، ومنذ سنوات لا يمر استحقاق انتخابي إلا وترتفع معه معدلات المخاطر، من إسبانيا إلى إيطاليا مرورا بفرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها، تحقق النزعات الشعبوية والعنصرية نجاحات غير مسبوقة، وعلى المنوال نفسه تسير النزعات الانفصالية بثقة نحو تخريب الدولة الوطنية، الوعاء الكلاسيكي للديمقراطيات التمثيلية الأوروبية.
وفي بلدان «الربيع العربي»، لا يبدو أن الوصفة البرلمانية قد أعطت أكلها. في ليبيا يعود واحد من أسباب الأزمة السياسية في البلد إلى تجربة برلمان طبرق، وفي تونس تسير التجربة البرلمانية اللامعة نحو أن تسقط في عدم الاستقرار الحكومي والتوترات الاجتماعية، وفي المغرب بدت التجربة مرتبكة، بينما استنجد المصريون بالنظام الرئاسي من جديد على شاكلة الجزائريين الذين لم يتحمسوا كثيرا لانفتاح نظامهم السياسي المغلق على ديمقراطية البرلمانات التي قادتهم إلى العشرية السوداء.
سيكون الأمر مقلقا بالنسبة للعشاق الدائمين للتمثيليات البرلمانية في العالم كله، وقد يبدو أنه عودة إلى زمن شخصنة الدولة، لكن الأنظمة السياسية تعيد عمليا تشكيل نفسها، ففي النهاية للفعالية والنجاعة منطقهما، مثلما أن لحالات الفشل تفسيراتها أيضا.
ومهما يكن التبرير هنا أو هناك، يبعث العالم برسالة واضحة: هناك والآن لا مجال للدول الفاشلة، ووحدها الدول القوية ستحسم مصيرها في عالم يميل نحو جنون القوة.
لكن كثيرين هنا لا ينظرون إلى كل هذا الأفق المقلق، وبأسلوب انتحار سياسي مثير للدهشة، يسيرون نحو أن يضعوا الدولة والديمقراطية في حالة تناقض حاد، وبالنسبة لكثير منهم، الهدف هو إسقاط الدولة لأجل مشاريعهم السياسية الخاصة، سوى أنهم لا يستخلصون العبر مما حل في دول الجوار: لم تؤد أحلام الثورة سوى إلى الخراب، وإلى إعلاء قيمة الأمن على أسسهم الديمقراطية في بورصات السياسات الجديدة.
لنفتح فقط أعيننا على أفق أرحب، ولنستمع لنبض ما يجري في العالم من حولنا، فربما حينها فقط يصير العالم تناقضنا الرئيس والدولة تناقضنا الثانوي، إنه ترتيب الأولويات الذي يجعل هدف حماية الدولة أحيانا أسبق من التغزل بديمقراطية لا تملك وسائل الدفاع عن نفسها في مواجهة من يخطبون ودها اليوم ليغتالوها غدا.