طه لمخير.
منظمون مرتبون كفيالق الجند المنضبطة على إيقاع صارم بعزم واثق وخطى ثابتة يمضون شيئا فشيئا في استلاب الناشئة التي هي عماد جيل المستقبل، يطبعون الملازم الوعظية والكتب التثقيفية المشحونة بخطاب أيديولوجي تكفيري يضرب في الصميم أسس التعددية والاختلاف، يسوقون واسعا للإيديولوجيا عن طريق اقتحام وزارة التعليم بعناصرهم المنضوية تحت اللواء القطبي(نسبة لسيد قطب) واستغلال العلاقة الأبوية بين الأستاذ المؤطر والتلميذ المتلقي، ثم عن طريق العمل الجمعوي والنقابي والاجتماعي(نقابة الأطباء المحامين والجمعيات الخيرية) الذي يضمن لهم ولاء فئات واسعة من الطبقات المعوزة والبروليتاريا المنهكة التي تراهم شعاع الأمل عندما تدلهم بهم الدنيا، واليد العليا التي تمتد لهم في أوقات الحاجة.
وباستثناء عائشة الشنا التي تغطي بجمعيتها المدنية حصة من المجال الخيري وبعض الجمعيات النسائية؛ فإن قطاع الأعمال الخيرية والتطوعية غير المهيكل والمفتوح على مصراعيه أمام الأيديولوجيا الإسلاموية المدعومة بأموال النفط والتبرعات المشبوهة؛ هو من المسارب التي تضخ على حركات الإسلام السياسي موارد بشرية هامة وحيوية.
نلاحظ التحركات الدعائية لحركة التوحيد والإصلاح التي بدأت تسرع من وتيرة الشحذ والتجنيد من خلال أنشطتها المدرسية قبل حلول موعد الانتخابات، ثلاث سنوات ستكون فيها الحركة قد تغلغلت بشكل أكبر داخل الجسم التعليمي المغربي وأمسكت بتلابيب العقل الطلابي، جماعة العدل والإحسان هي الأخرى (مجهزة بأحدث وسائل الدعاية واللوجستيك وتقنيات التصوير والإثارة ومواقع إعلامية وفكرية و قناة إعلامية غير مرخصة (الشاهد)- تتجه هذه الأيام في حملتها الدعائية نحو الأسرة؛ أهم وحدة من وحدات المجتمع، برامج منظمة ومجدولة سنويا وخطط مرسومة وعمل جاد ودؤوب كخلية النحل في سبيل الهدف والمشروع.
فماذا تفعل منظمات المجتمع المدني واليسار المتراشق بالألفاظ المتنافر في المواقف غير التجمهر ومعارضة المخزن والدخول في صراعات مجانية غير مجدية مع مراكز قوى المفروض أن تتحالف معها عِوَض استجلاب عداوتها، لكن غياب البراغماتية وحسن الإدراك يجعلهم يعكفون على عجل حقوق الانسان بشكل أتوماتيكي طوباوي، حقوق الإنسان مهمة، لكن هناك أولويات حتمية هي بذاتها في صميم هذه الحقوق.
وماذا تفعل النخبة في برجها البورجوازي وأحلامها العاجية، تتحدث بالفرنسية، تقيم ندواتها منكفئة بعيدا عن الأنظار، غير راغبة في الاتصال، غير قادرة على الخروج من الدائرة القفصية التي تتقوقع فيها، وغير مستشعرة خطر الانقراض والتلاشي الذي يقترب كل يوم، بينما تتميز الحركة الأمازيغية بأنانية منقطعة النظير متحصنة في غيتوهاتها المنعزلة لا تحارب إلا من أجل اللغة والهوية العرقية رافضة الحضور في الأنشطة التنويرية العمومية خارج هذين النّسقين.
حركة الإخوان قامت بهذا الدور الذي تستنسخه بدقة عالية جماعة العدل والإحسان وحركة التوحيد والإصلاح منذ ثمانين سنة، اشتغلت فيها على المجتمع وعلى الفرد وعلى الأسرة، فحدث شرخ أفقي بين الدولة المدنية والمجتمع الذي اعتنق الإسلاموية مع مجيء أنور السادات إلى الحكم في السبعينات وإفساحه المجال للخطاب الديني المتطرف لمحاربة اليسار الناصري في الجامعات.
ومع توالي السنين أقاموا الدولة الإسلاموية القطبية التي يتصورونها فعليا في المجتمع وإن لم يجلسوا على كرسي الحكم، بعد أن تخلت الدولة الوطنية عن مواقعها وأدوارها في التأطير والمراقبة وتوفير الرعاية الثقافية و الاجتماعية الكفيلة بتحصين الفئات المعوزة من ابتزاز الحركات الاسلاموية واستغلال فقرها لاستقطابها سياسيا وأيديولوجيا، بل إن الدولة الوطنية نفسها وقعت فريسة للإديولوجيا القطبية وباتت مستسلمة لها منكسرة أمام شعبيتها غير راغبة في معاكستها، وانكمش المثقفون والنخبة حول ذواتهم وفِي مراكز أبحاث خليجية تخدرهم في مناصب استشارية و تشتري صمتهم وتطبع إنتاجاتهم المغرقة في العسر والتقعير والبعيدة عن متناول القارئ العمومي.
إن الناشطة خديجة الرياضي مثلا لا تلبس الحجاب الذي هو ركن سادس من أركان الإسلاموية، وتحضر ندوات الجماعة الذين يرونها في أس منهاجهم -بعيدا عن خطاب الواجهة الإيهامي المزيف- عاهرة سافرة يحجر عليها في البيت عندما تقوم لهم قومة وتستحكم عندهم السلطة، ومع ذلك خديجة في غفلتها تكون أداة طيعة يستعملونها كوجه مدني لترويج خطابهم عن طريق ما يعرف بالإيتوس في نظرية التأثير والإقناع الخطابي الأرسطية.
كذلك النهج الديموقراطي وبعض اليساريين "الطيبين" الذين تعتبرهم الجماعة حفنة من المرتدين يستعملونهم في إطار الذروع السياسية التي سوف تعلق رؤوسهم في الساحات العامة بعد أن يتم لهم الأمر، هذه ليست هلوسات كاتب حقود، أو خطاب إفك أتجنى به على الجماعة، هذه قناعات و عقائد تدين بها الجماعة و مدونة بوضوح لا جمجمة فيه في كتب ياسين وعلى المواقع المهتمة بنشر كتاباته "أون لاين"، كتابات لها قدسية أكبر من القرآن بين صفوف "جند الله" ويتعاملون معها-وليأذن لي سعد زغلول-"كأنها تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم"، لكن القوم لا يقرأون، إن أحدا لا يقرأ في عين الموارد الأيديولوجية التي تؤطر بها الجماعة شبيبتها وأعضاءها في مجالس النصيحة والندوات المغلقة البعيدة عن الأعين، إنهم في غشاوة تامة عن التيارات التي يدافعون عنها وعن طبيعة المشروع الإبادي الشمولي الذي تمثله.
فاطمة الإفريقي عندما تدافع عن بوعشرين بأسلوب الباتوس الذي يعتمد على العاطفة ودغدغة المشاعر دون قوة المنطق وأسباب العقل هي أيضا تدافع عن هذا المشروع، سواء مدفوعة بسذاجة عاطفية أو بالإطراء المزيف لكتاباتها وأسلوبها، أو بالإغراءات والدعوات لتأطير الندوات الثقافية والجامعية، أو حتى بالمال النفطي، كل كاتب له مفتاح لاستمالته وسكة لإغوائه.
مواقع الكترونية معروفة اندس فيها طغمة من أقلام شاحبة تروج للفكر الإسلاموي من طرف خفي، مقالات كتاب بالبدلة وربطة العنق وتحت مسلاخهم إرهابي محترق لا يقل مقتا وهمجية عن عناصر "القاعدة في المغرب الإسلامي"، تختلف الوسائل والمناهج دون الغايات العليا.
إنه لمن السهل تحديد خطابين غير منسجمين بين كتابات ياسين واللغة التي تستعملها الجماعة على موقعها والتصريحات التي يدلي بها قياديوها وقيادياتها إلى الإعلام، نلاحظ جليا اختلافا براغماتيا في الأسلوب والدرجة.
ياسين يروج خطابا متشددا من موقع متحفظ تلقاء الديموقراطية والحريات العامة، معتمدا لغة مترعة بالمجاز كوسيلة بلاغية لهيكلة ذهنية لأتباعه داخل الإطار الموجه إلى غايته.
هناك أيضا استعمال صيغ أوامرية إجبارية مثل "علينا" "ويجب" وكثرة استعمال الضمائر مثل "نحن" "إننا" إشارة إلى الهوية الأيديولوجية لأعضاء جماعة مختارة وتكريس العزلة الاختيارية المفارقة لمحيطهم المجتمعي الجاهلي.
يشبه ياسين الأمة بالجسد المريض ما يدفع المريد المتلقي إلى الخروج من هذه الذات المريضة والتشكل مجددا في جسد إيديولوجي جديد معقم ومطهر، هناك تكثيف نازي مركز في النصوص يمجد الذات الحركية ويحقر "الآخر"، بل ويبالغ في المجاز إلى درجة الإسفاف والعيّ البلاغي يحاول فيه تقليد أسلوب الرافعي لكنه ينحط إلى الحضيض والابتذال في استعمال المجاز وهو يقول:" جسم الأمة مريض، دماؤه خليط من موروث متخثِّرٍ وحديثٍ سارِبٍ. فقدت دماؤنا الإيمانية القلبية العقلية المسلمة توازناتِها الأصليَّةَ كما يفقد الدم في جسم اللحم والدم توازناته المعدنية والمائية والإنزيمية والهرمونية والكيميائية…تورِد دماءً من مجموعة «أ» على جسم دماؤه من فئة «ب»، فماذا يحدث؟ تحدث فوضى وثورة على الدخيل، ونبذٌ عنيف، وموت محقق".(الشورى والديموقراطية)
يستعمل معنى سفينة نوح للإشارة إلى الجماعة، ونوح النبي يوحي بموقع الشيخ في الجماعة/السفينة، وبالعودة إلى الموروث نجد الطوفان الذي أهلك الكافرين/المجتمع، والولد العاق/الليبراليين واليساريين الذين كفروا بدعوة الشيخ/النبي.ونلاحظ صورة السفينة تظهر وتختفي بين الفينة والأخرى على الموقع الرسمي للجماعة كنوع من التخاطب الرمزي الداخلي بين الأعضاء الذين يعيشون حالة "نوحية" عاطفية تجمع لحمتهم الذهنية، وهي إشارات ورسائل سيكولوجية تلعب على خيال المريدباستدعاء القصص القرآني والموروث ثم تسقطه على الواقع بشخصياته وأحداثه، ورمزيته ومآسيه، وحتى طوفانيته وعذابه.
نجد أيضا استعانة ياسين بالإيتوس والوجوه الاعتبارية ذات السلطة الفكرية لإضفاء قوة مرجعية ومصداقية على خطابه؛ في الجهاد والشهادة مثلا يحيل على الإرهابي سيد قطب قائلا في كتاب المنهاج النبوي: "لا نقول كلمة الأفغاني رحمه الله: «قل كلمتك وامش» فلم يعد الوقت مناسبا لها، ولا هي تقوم بمهمة وقد استيقظ المسلمون بصيحات من سبقونا بإيمان. نقول إن واجب الدعاة أن يربوا وينظموا ويزحفوا. ولكن لا بد من دفع الثمن والتربية بالمواقف الناصعة. فلعل مجاهدا مثل سيد قطب رحمه الله كانت شهادته في سبيل الله أكبر مساهمة في دفع قضية المسلمين إلى النصر بفضل نعمة الله عليه بذلك الموقف الاستشهادي. كان يقول رحمه الله ما معناه : «أعمالنا دمى لا تسري فيها الحياة إلا بدمائنا»".
وفِي الرأي السياسي وجواز الانخراط في العملية الديموقراطية يحيل على الإسلاموي الباكستاني المودودي، في حين يستغل وجوه الفكر والفلسفة الغربيين كانط وديكارت ومونتسكيو وغيرهم أقبح استغلال لصالح الجدل المعرفي الذي يتجاسر على خوضه معتمدا الاجتزاء والاقتطاع والخيانة العلمية.
عندما يتحدث عن الديموقراطية ينحلها صفة النبات الذي اجتث من بيئته الغربية ليزرع في تربة ليست تربته، يهجنها، يلعن جذورها الانسانية الرحبة، يصمها بالفسق والفساد الأخلاقي، ويتحدث عن الغربيين باعتبارهم ذئابا، في المقابل يروج للفكر الإسلاموي القطبي على أنه فكر أصيل ونبات إلاهي نمى في حضن تربته الأصلية.
بيد أن الخطاب الذي نصادفه على مواقع الجماعة هو معتدل نسبيا والخيار اللغوي أكثر حذرا وهذا لون من الانزياح من حال الصدام إلى التموقع التكتيكي ليس إلا.
والجماعة مرتاحة إلى وضعها "النصف قانوني" الذي يتيح لها ممارسة أنشطتها المتطرفة والإرجاف في المظاهرات الاجتماعية مع الحفاظ على جهازها التنظيمي، ولذلك فهي تمارس نوعا من المعارضة اللئيمة التي لا تتجاوز فيها حدودا متعارفة حتى تبقي على حرية أعضاءها، لكنها في جهاد مستمر لجس نبض السلطة والتحرك لشغل مساحات جديدة كلما سمحت الظروف السياسية، يقول ياسين في المنهاج :"قد يكون تحدي الطاغوت تهورا في ظروف لا يقدرها إلا من يعانيها. لكن ليتق الله المؤمنون أن يمنعهم من الجهر بالحق فهم يبرر القعود، أو زعم أن هذا النبات الإسلامي الشاب من يربيه وينظمه إن ذهبت أنا وذهبنا نحن. المهم أن نجنب الصف تبعات مواقفنا السلبية وأخطاءنا. المهم جدا ألا نذهب هدرا، وأن يدفع الأعداء ثمنا باهظا لحياتنا، وأن يترك استشهادنا دويا ومثلا لمن بعدنا".
ولله الأمر من قبل ومن بعد