ساعات قليلة بعد صدور بلاغ وزارة الداخلية بخصوص احتجاجات جرادة، تسأل قناة «فرانس 24» ضيفها من الرباط عن تطورات الحركة الاحتجاجية، والسر وراء اللهجة الصارمة للوزارة.
يحاول الضيف أن يكون متوازنا، فكرة من هنا، وأخرى من هناك، وخلف محاولة الحياد والموضوعية، تنفلت منه واحدة من جزئيات التحليل أو التعليق: عودة الاحتجاجات يمكن النظر إليها في إطار الانقسام الحاصل داخل حزب العدالة والتنمية، وهي تأتي في سياق الترويج لمشروع سياسي جديد في المغرب.
تحاول أن تتجاهل الفكرة المنفلتة، أو تعتبرها حشوا في مبنى الحديث، تعود إلى بلاغ وزارة الداخلية، وتسعى لأن تفهمه بالأطروحات المؤسسة لنظرية الدولة، خاصة منها ما تعلق بطروحات العنف المشروع، وحق الدولة وواجبها في تأطير فضاءات الاحتجاج، وتنظيم التظاهر حتى لا يتحول إلى عصيان أو تمرد، ويصير فيه إضرار بالمصلحة العامة.
تقرأ البلاغ وتعيد قراءته، وتفهم أنه وفي كل الديمقراطيات لابد من قدر من الصرامة والحزم، ويحدث ذلك في اللحظة التي يتعارض فيها الحق في الحرية، مع واجب حماية النظام العام بمفهومه القانوني.
لكن ذلك لا يجيبك عن السؤال المؤرق: ما الذي يحدث في جرادة؟
كل ما تعرفه هو أنه، وعلى مدى أسابيع، والقطاعات الحكومية والهيئات المنتخبة والإدارية تجري حوارات ماراطونية مع الساكنة، وفي المحصلة يتفق الجميع على خارطة طريق لإنقاذ المدينة وسحبها من معاقل التهميش.
وتعرف أيضا أن الهيئات السياسية والنقابية والجمعوية، غير العدمية والمنظمة قانونيا، لم تصدر أي بيان يدعو للتظاهر، وكل ما صدر عنها بلاغ مشترك نقرأ فيه أن مسؤوليها «ثمنوا ونوهوا بالمقاربة الفعالة التي تم اعتمادها لمعالجة المشاكل المطروحة من جهة عبر اتخاذ حزمة من الإجراءات للاستجابة للمطالب الآنية للساكنة»، ويدعون فيه إلى «ضرورة الإسراع في تنزيل وتنفيذ الالتزامات والتعهدات المقدمة».
ومع ذلك، تعود الاحتجاجات إلى المربع الأول، بل وتريد في لحظة أن تتمدد في مسيرة نحو الرباط. ثم تتساءل من جديد: من يجر الساكنة والمدينة إلى المجهول؟
تعيد تقليب السؤال وتجد نفسك تعود إلى ضيف «فرانس 24»، في جرادة، أو عودة الاحتجاجات إليها تحديدا، تشتم روائح السياسة.
هناك بالفعل من يعتقد أن هناك مشروعا سياسيا يتم الترويج له، وبدلا من مواجهته سياسيا، يحاول أن يقصفه بساكنة جرادة.
وهناك أيضا بعض من اليسار الذي لا يمكنه أن يعيش إلا وسط عقدة الاضطهاد، الحوارات والتوافقات تخنق أنفاسه، هو دائم البحث عن «بؤرة ثورية»، تارة باسم الريف وتارة أخرى باسم زاكورة، وبعد أن تفشل انتظاراته، يعود لتجريب الوصفة في جرادة.
وبين هؤلاء وأولئك مازال أصحاب «القومة» يطاردون «دولة الخلافة» في كل مدينة وحي ونقابة وقطاع مهني. وها هم يأملون أن تتحقق الرؤية والنبوءة من داخل مناجم جرادة.
ووسط هذا الخليط يضيع جزء من حزب العدالة والتنمية، فالبنسبة إليه جرادة فرصة سانحة لتصفية الحساب مع الذين يعتقد أنهم أزاحوا مرشده الروحي من واجهة التدبير العمومي.
وطبعا، وبالنسبة لهؤلاء، ليس من حق وزارة الداخلية أن تطبق القانون، ولا أن تدعو المحتجين إلى إعمال العقل والامتثال لقواعد الدولة وضوابطها. فالاحتجاج في مفهومهم الثوري والأصولي «فوضى مشروعة».
والدولة بالنسبة إليهم مدانة دائما، وستبقى كذلك، وهي الوحيدة التي لا حق لها في قرينة البراءة، ولا في المحاكمة العادلة أمام الرأي العام.
هكذا هي الدولة في عقيدة الاضطهاد لديهم، إنها «آلة إجرامية» دائما. والقائمون عليها «عصابة». ومفاهيم القانون والنظام العام والتظاهر غير المشروع أسلحتهم الفتاكة.
لكن «الفوضى المشروعة» لا بد أن تكون لها حدود، وعلى مدى أشهر تحمل النظام العام كثيرا من ضغط الأعصاب، وكان لابد له وواجبا عليه أن يفعل ذلك، لأن الدولة لم تقدم حينها أي جواب عن سؤال التنمية والتهميش.
وبلاغ وزارة الداخلية لم يخطئ التوقيت، ولم يجانب الصواب في المضمون.
توقيته واضح ودقيق، بعد أن اتفق السكان والسلطات العمومية على مشاريع التنمية يجب أن نعطي للوقت فرصته، ووحدها العصا السحرية يمكن أن تنفذ الالتزامات في ساعات أو أسابيع قليلة.
والمضمون قانوني وشرعي: لا أحد يعلو فوق القانون باسم مثالية الاحتجاج ورومنسية المطالب. ومتى صار الحق في التظاهر متعارضا مع النظام العام، ينبغي إعادته إلى جادة الصواب.
أما حين يصير مشتبها في خلفياته ودوافعه السياسية، ويظهر أن هناك من يريد أن يجعل من السكان أذرعا بشرية لأجندته السياسية الخاصة، فلا بد حينها أن يكون للحديث لغة أخرى، هي لغة الحزم والصرامة.
ففي نهاية المطاف، جرادة ليست ولن تكون «قومة» ولا «بؤرة ثورية».