محمد أكديد
(1)
مقدمة
مازالت هناك الكثير من العراقيل والإشكالات التي تعيق التحقيق في مجمل التراث الإسلامي وعلى رأس ذلك التاريخ. ورغم تصاعد الدعوات من أجل إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وفق منهجية علمية وباعتماد أدوات العلوم الإنسانية المعاصرة، فإن هذا المشروع مازالت تطغى عليه الفردانية في غياب توافق مؤسساتي يخرجه من متاهات الإقصاء والطائفية وهيمنة روايات و رؤى السلطات التاريخية التي كانت تتدخل عادة في كتابة التاريخ الرسمي.
هكذا نجد أنفسنا أمام فريقين، فريق يشكك في كل الروايات التي جاء بها التاريخ كرد فعل سلبي على الكثير من المغالطات والأكاذيب الواردة، وفريق يقبل دون أن يناقش كل ما جاء في هاته المرويات، بل قد يتبنى نفس مواقف المؤرخ الذي كان من بين أهدافه تمرير اختياراته المذهبية وإرضاء السلطات القائمة.
ورغم التحقيق الذي يتوقف عادة عند سند الروايات التاريخية ولا يطال متنها الذي يتأثر نصه بعدة عوامل ذاتية وموضوعية سنشير إلى بعضها لاحقا، فإن عائق المسافة الزمنية الفاصلة بين الحدث ولحظة تدوينه يضع مصداقية الأحداث التاريخية موضع شك وارتياب.
المؤرخ والسلطة:
عادة ما كان المؤرخ ضعيفا أمام السلطة إن لم يكن مخيرا بين أمرين؛ إما الركون إلى السلطة والامتثال لكل أوامرها وطلباتها في تدوين ما يناسب رؤيتها وطموحاتها، أو الابتعاد عنها والمغامرة بمكانته وربما بحياته في سبيل إفشاء الحقيقة التاريخية.
وتزداد السلطة تدخلا في التاريخ كلما كانت ضعيفة أو فاقدة للشرعية، حيث يصبح الاستبداد والتحكم هو خيارها الوحيد. فتعمد إلى قمع الحريات ومنها حرية كتابة التاريخ وإلى توظيف مؤرخين رسميين وظيفتهم التأسيس بما يكتبونه لهذه الشرعية المفقودة.
وهنا تكمن صعوبة كتابة التاريخ العربي والإسلامي وخطورته. خاصة عند الوقوف على الكثير من المواقف والروايات المتناقضة حول بعض الأحداث أو الشخصيات التاريخية. فالمعارك التي خاضها الأمويون لتوسيع نفوذ دولتهم تقدم رسميا كفتوحات إسلامية، في حين يسكت التاريخ عن تجاوزاتهم ضد الشعوب والأمم الأخرى. هاته التجاوزات التي حالت دون دخول الكثير من الأمم إلى الإسلام، بل دفع من أسلم منها إلى الارتداد أو التمرد كما حدث في المغرب الأقصى مع ثورة برغواطة التي طرد على إثرها الأمازيغ ولاة الأمويين بعد تجاوزهم كل الحدود في استغلالهم والتنكيل بهم.
إن المناطق التي بلغها الإسلام على أيدي الدعاة كالهند والصين وأندونيسيا وماليزيا وجنوب إفريقيا لهي أكبر بكثير من المناطق التي وصلها الفاتحون بجيوشهم وأطماعهم التي عادة ما صدت الناس عن الإسلام. وتاريخ الحضارة الإسلامية أهم بكثير من تاريخ الانتصارات العسكرية التي يقدمها المؤرخون عادة على أنها انتصار لدولة الإسلام والمسلمين!
يحكي الطبري في أحداث سنة 110: "فيها كان واليا على خراسان الأشرس بن عبد الله السلمي، في عهد هشام بن عبد الملك بن مروان، وقال الوالي يوما: "ابغوني رجلا له ورع وفضل، أوجهه إلى ماوراء النهر. فيدعوهم إلى الإسلام، فأشاروا عليه بأبي الصيداء صالح بن طريف مولى بني ظبة، فقال: "لست بالماهر بالفارسية"، فضموا إليه الربيع بن عمران التميمي، فقال أبو الصيداء: "أخرج على شريطة أن من أسلم لن تؤخذ منه الجزية". فقال الأشرس: "نعم". قال أبو الصيداء لأصحابه: "فإني أخرج، فإن لم يف الولاة أعنتمونا عليهم". قالوا: "نعم". فشخص أبو الصيداء إلى سمرقند، فدعا أهلها ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس إلى الإسلام، على يدي هذا الرجل، فكتب والي سمرقند إلى الأشرس: "إن الخراج قد انكسر" (يعني الأموال قلت). فكتب الأشرس كتابا جاء فيه: "انظر من اختتن منهم، وأقام الفرائض، وحسن إسلامه، وقرأ سورة من القرآن، فارفع عنه خراجه"، (يعني يريد جماعة، بعضهم قد جاوز الثمانين أن يختتنوا؟؟ ويريد منهم وهم لا يعرفون اللغة العربية، أن يحفظوا سورة من القرآن؟؟). ورغم أن أهل سمرقند قد بنوا المساجد وتعلموا العربية وحفظوا القرآن، فقد رد الأشرس الخراج كما كان عليهم مما دفعهم إلى التمرد، حيث سجن أبو الصيداء وأصحابه بعدما استنكروا الأمر. يقول الطبري: "فكفرت بلخ وبخارى، واستجاب الترك".
من جهة أخرى فقد طغت ذاتية المؤرخ على الأخبار وحضرت ميوله المذهبية في عملية الانتقاء والتوصيف من خلال التعصب لشخصيات معينة، ولقراءات معينة لبعض الأحداث، كما احتوت المادة المنقولة الكثير من التناقضات والمغالطات وأحيانا الأساطير والخرافات، وذلك في غياب التحليل الرصين.
وقد أدى فقدان الكثير من المصادر الأولى والمخطوطات خلال عدد من المآسي التي تعرضت لها الأمة، كان من أشدها وقعا على إشعاع الحضارة الإسلامية حرق المكتبات في محطات مختلفة من بغداد إلى قرطبة، بالإضافة إلى ضعف تحقيق الكثير من المخطوطات التي وصلتنا اليوم. الشيء الذي أدى في النهاية إلى تسطيح حركة التاريخ وتعويم الكثير من أحداثه.
كما زاد التعتيم على ما تبقى من المصادر التي تتحلى بنوع من الموضوعية والحياد في تقديم الحقائق التاريخية، خاصة بعد هيمنة الرواية السلفية التي انتصرت لها السلطة قديما وحديثا نظرا لحاجتها للنصوص التي يبرع أتباع هذا التيار في استخدامها وتوظيفها حسب الطلب.
بل إن الأمر قد تجاوز في بعض الأحيان التعتيم إلى التزوير، حيث عمدت عدد من دور النشر السلفية إلى إعادة طبع الكثير من مصادر التاريخ الإسلامي بدعوى التحقيق، وتنقيتها من كل الروايات والأخبار التي تكشف بعض المزالق والأخطاء التي تورط فيها عدد من الصحابة أو الحكام، أو تلك التي تخدم فرق إسلامية أخرى كالشيعة والمعتزلة. وقد امتدت هذه المعالجات لكتب الحديث والتفسير أيضا.
أما المعارضة التي كانت ترفع شعار الإصلاح أو الثورة، فقد تم تشويه صورتها و رموزها ونعتهم بشتى أنواع التهم من السعي إلى الفتنة إلى المروق عن الدين بسبب مواقفهم من السلطة القائمة، كما سعى المؤرخون جهدهم لتلميع صور الحكام والتعتيم على تاريخ الاستبداد الذي امتد خلال كل أطوار الدولة الإسلامية.
وهكذا يمكن أن تجد من يسوغ لمعاوية مثلا قتل حجر بن عدي الكندي وأصحابه، وليزيد مذبحة الحرة ضد الأنصار، ومن يكتب عن ثورة الإمام الحسين (ع) والتي كانت تستهدف تغييرا بنيويا للسلطة الإسلامية، بأنها حركة تمرد على السلطة الشرعية، إلى أن قال أحدهم (أبو بكر ابن العربي): إن الحسين قتل بسيف جده!
لقد حاول الطبري في "تاريخ الأمم والملوك" قدر استطاعته تمحيص سند الرواية التاريخية وإن اقتصر في نقله على السند جريا على عادة أصحاب الحديث، وهو في نفس الوقت كان يتحاشى غضب السلطة (قبيل وفاته كان يدون كتابا في فضائل العباس ربما بإيحاء من رجال السلطة العباسية)، لكنه سقط مع ذلك في بعض المطبات (كروايته عن سيف بن عمر التميمي المطعون عند أغلب المحققين) التي نقلها عنه المؤرخون ممن جاؤوا بعده كابن كثير وابن الأثير مع انتقائية سلفية للأحداث والمواقف التي تعارض ما اشتهر عند العامة مما دسته الدعاية الأموية في التاريخ.
ورغم ذلك، مازال تاريخ الطبري يحظى بمكانة متميزة بين كل التواريخ التي سبقته أو جاءت بعده. ومنها طبقات ابن سعد و أنساب الأشراف للبلاذري وتاريخ اليعقوبي الذي كان أكثرهم دقة في البحث والإستقصاء في الروايات إلا أن تسليطه الضوء على حياة أئمة الشيعة جعلت القوم يتهمونه بالتشيع ويهمشون تاريخه.
ورغم الرؤية المتقدمة التي عالج بها ابن خلدون رواية التاريخ في "المقدمة" إلى الحد الذي دفع البعض إلى القول بأنه مؤسس علم الاجتماع، فإنه قد كتب تاريخه بطريقة تقليدية لم تبتعد كثيرا عما دونه سابقيه، إلى الحد الذي دفع البعض أيضا إلى التشكيك في كتابته للمقدمة!
من جانب آخر، فقد غطى التاريخ الرسمي الذي هيمنت على أحداثه تفاصيل الصراعات السياسية وأحوال ومواقف الملوك والقادة وبعض الشخصيات المؤثرة على تاريخ الشعوب ومعاناة الأمم. هذا التاريخ المهمش يمكن تتبع أثره فقط في كتب الأدب كالعقد الفريد لابن عبد ربه والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والبخلاء للجاحظ وغيرها، وكذا في الرواية الشفهية الشعبية والمحكيات والأمثال بل حتى النكات..يتبع
*باحث في التاريخ واختلاف المذاهب
mohamed.akdid@gmail.com