طه لمخير
من قال إن الماضي لا يعود؟..من قال إن أرواح المغدور بهم والمقتولين غيلة تترك أصحابها يرفلون في هناء بقية حياتهم؟..في اللحظة التي كان يحمل فيها حامي الدين حجرا ثقيلا ويهوي به بكل ما جاشت به نفسه من حقد وغيظ على رأس الشهيد أيت الجيد حتى فلق جمجمته نصفين واندلقت حشوة الدماغ الساخنة على الطريق؛ كان الإسلاموي المغمور آنذاك لا يعلم أن هذه الحادثة سوف تعود لتكون أرق يومه وليلته بعد أزيد من عقدين عندما أصبح أكثر تمدنا ونزع عنه -في الظاهر- خرقة البلادة والرجعية..
الرجل الذي فتحت أمامه أبواب السياسة التي كانت مغلقة على رهطه ومعها أبواب الغنى والثراء والأضواء والشهرة تعلم كيف يضع رجلا على رجل ويلبس البدل الفخيمة من ماسيمو دوتي وبوص ولا ينسى ربطة العنق السينيي ذات اللون الملائم، وأصبح يتقلد مناصب عليا في الحزب الإسلاموي الذي يحكم المغرب منذ سنين جاثما لا يتململ..وبدأ يهيء نفسه لتقلد منصب وزير للعدل أو رئيس لمجلس النواب..
لكنه استشعر منذ مدة أن أحلامه الكبرى بدأت تتكسر على صخرة الواقع كما كسر هو بصخرة الإرهاب جمجمة شاب واعد وحرمه من أغلى أيام عمره..ترى لو كان أيت الجيد معنا اليوم كيف كان سيكون حاله؟ ربما متزوجا له امرأة تحبه وله أولاد في عمر الزهور..وربما كان على رأس حزب من الأحزاب أو مجرد رجل يستمتع بحياته على شاطئ البحر لا يأبه بالسياسة وأهلها..لكنه حرم من كل ذلك حرم من حقه في العيش لأن حامي الدين قرر في لحظة تجلي إخوانيةأن يعدمه ويضع حدا لحياته..
وهاهو اليوم يطارد القتيل قاتله في كل ركن وزاوية، عيناه تنظران إليه وشعاعهما يكاد يخلع قلبه، يراه منتصبا في خياله بوجهه النحيل وشاربه الخفيف فوق شفتيه وابتسامته الهادئة الظافرة تقول :"عبد العالي قتلني"..كما تقول تلك النسوة المكلومات: "بوعشرين اغتصبني"..
يطارده في أحلامه يطوق رقبته بحبل مفتول عليه دماءه الزكية..هل يستطيع أن ينسى القاتل قتيله؟!!..نظراته الأخيرة وهو يفارق الحياة..تأوهاته والدماء تفور من رأسه..ترنُّحه وفرفرة رجليه واستغاثاته؟!!..وتشاء الأقدار -التي تسخر من الجناة مهما طال فرارهم من العدالة في دروب الحياة-لتطوف روح أيت الجيد-بعد كل هذه السنين- بالصحفيات المغتصبات لتطمئنهن بأن حقه وحقهن لن يضيع، لأن الذي قتل والذي اغتصب قد حان الوقت لهما كي يحاسبا ويكشفا أمام الناس بقبح الأفعال وهمجية الطباع..
أولئك المتاجرون بالدِّين الذي لا يتورعون في الأرواح ولا يتقون في الأعراض..يحاضرون في الأخلاق وفِي الحرية وفِي الديموقراطية وفِي المال العام كما تحاضر المومس في الشرف..يرفعون أقلامهم ليمسحوا العار عن صاحبهم؛ الأسطورة التي لا تقهر..وينزلون سراويلهم القصيرة ليرى الناس عوراتهم فيخشوهم..بمن يهزأ حامي الدين في منتدى كرامته؟ بالله، الذي يقول "ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا"؟ أم بالقتيل الذي لازال معلقا بين السماء والأرض حتى ينال الجاني عقابه؟!!..
يتفوهون بأقبح الشتائم في حق النساء المغتصبات لا تحوجهم نذالة الأوغاد..يطالبون بتطبيق الشرائع القديمة التي لو طبقت لكان هم أحق الناس بالرجم والجلد والرمي من الشواهق..هاهو ذا "حامي صاحبه"-كما لقبته صادقة إحدى المشتكيات- لا يظهر إلا محاطا بإكليل من الحراس خشية الناس ترهقه ذلة..لا يكاد يمر بشارع إلا وتلاحقه هتافات "الإرهابي..القاتل المتوحش.. الإخواني الموبوء" موصوم بالذل والعار..
وها هي الحلقات بدأت تضيق من حوله، وشبح القضاء المحتوم يقترب منه رويدا رويدا وهو في غمرة معاركه الدونكيشوتية يعقد الندوات ويجيش الأتباع ويختلق المبررات..يتعلق ببوعشرين تعلقَ غريق بغريق..وهما اللذان لاطالما تلذذا بالكيد والتجني على ما لا يحصى من الخلق..وما ضاع حق وراءه مطالب..ولعل هذا ما يخيف إخوانه في جماعة العدل والإحسان الذين بدأ كثير منهم يتحسس رأسه عن جرائمهم المنسية التي لا تسقط بالتقادم..
ولله الأمر من قبل ومن بعد