في الوقت الذي ننعي فيه الكتاب وصناعته في المغرب، ونقرأ الفاتحة على القراءة والقراء الذين استبدلوا بالزوار! وفي الوقت الذي نجلس إلى سرير الصحافة نعايدها وهي تحتضر، يقفز حدثان إلى السطح قد يجعلانا نعيد النظر في هذه الجنائز التي نشيعها للثقافة في بلادنا.
الحدث الأول هو المعرض الدولي للكتاب الذي عرف هذه السنة إقبالا كبيرا، بحيث ارتفع عدد زواره بنسبة تفوق الخمسين بالمائة. صحيح أن الكثير منهم أطفال مدارس، ولكن هذا عنوان أمل وليس نقيصة، وبالتالي فالإقبال على الكتاب الذي هو الروح مازال حيّا يرزق. وأما الحدث الثاني، فهو اللقاء الذي احتضنته المكتبة الوطنية الأحد الماضي بالرباط، والذي جمع الكاتبة المغربية الفرنسية ليلى السليماني، صاحبة رواية "حديقة الغول"، والكاتب الجزائري كامل داود، بحيث إن الفضاءالكبير للمكتبة ضاق بزوارها رغم رحابته وازدحم الناس، ومنهم كثيرون ظلوا خارج القاعة في نشاط يتعلق بكاتبين وبالكتاب! فأين يوجد الخلل إذن؟ ولماذا تخيم هذه السحابة الكئيبة السوداء على كل الصناعة الثقافية في بلادنا، حيث اختفت المسارح وأغلقت جل دور السينما، وبارت تجارة الكتاب، واختفت مظاهر الاحتفاء بالقراءة من الأماكن العامة، قطارات كانت أو مقاهي أو وسائل نقل عمومية داخل المدن؟
إن الغريب في هذا التشخيص الذي يبدو متناقضا هو أنه حقيقة لابد أن تستخلص منها الدروس. فالرغبة في المعرفة قد تكون غريزة، ولكن البيئةالعامة في البلاد لا تسعف، ولهذا نجد أن المعرض الدولي هو مناسبة سنوية للتنقل إلى رحاب خير جليس، حيث العرض متنوع والفضاء مغرٍ والزيارة قد تكون بالنسبة للأسرة جمعا بين المتعة والفائدة، وهذا ليس هو حال تقليد القراءة المتواصلة الذي يصبح جزءا من الطقوس اليومية في المجتمعات المتقدمة. وأما بالنسبة لنشاط المكتبة الوطنية، فالاكتظاظ يمكن أن يفسّر بأن الجمهور هو من المفرنسين، وهؤلاء لهم تكوين مختلف عن تكوين المدارس العمومية في المغرب، أي أن برامج ومناهج المدارس الخاصة الراقية أو مدارس البعثات الأجنبية تخلق إنسانا مختلفا في ما يتعلق بحاجياته الاستهلاكية المعرفية عن المواطن البسيط، الذي عليه أن ينتظر إصلاح التعليم المعجزة ليصبح قارئاً.
في تقرير حديث لمؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود لسنة 2017/2016 حول النشر فيالمغرب، نبتهج عندما نقرأ أنحصيلة النشر في المغرب ارتفعت بنسبة 16 ٪، وأن الورقي شكلمنها نسبة 88.44 ٪ وأن 82 ٪ منها صادر باللغة العربية، ولكن هذا الابتهاج لا يصمد عندما نطلع على ترتيب هذه الإصدارات حسب الموضوع، بحيث نجد أن السرد يحتل الصدارة، يتبعه الشعر فالأدب الدرامي ثم الدراسات المسرحية ثم القانون فالتاريخ والدراسات الإسلامية، وما تبقى مشتت بين السياسة والفلسفة والاقتصاد والعلوم! كما أن الرجوع إلى الرقم الفعلي الذي انبثقت عنه نسبة ٪16 كزيادة سيجعلنا مشدوهين، بحيث إن مجمل الإصدارات لم يتجاوز 3333 عنوانا. وبمقارنة بسيطة مع فرنسا، فسنجد أن المنشورات من الكتب فقط هناك وصلت في نفس السنة إلى ثمانين ألفاً!
إن الشيء المؤكد في بلادنا هو أن الطلب والعرض في المجال الثقافي يعيشان حالة غريبة من التنافر، لقد أثر تواضع الطلب لسنوات على جودة العرض، مما جعل العرض في النهاية يزيد من تهاوي الطلب، لدرجة أننا في مجال صناعة الكتاب والصناعة الثقافية في بلادنا نتمثل المعادلة المأساة: تمسك غريق بغريق.
لقد قتلنا التعليم العمومي، وعلينا اليوم أن ننتظر معجزة من المجلس الأعلى للتعليم بعد صدور القانون الإطار حتى لا تغير الحكومات خطط الإصلاح مع كل انتخابات، وهذا الإصلاح لا يمكن أن يعطي ثماره في سنة أو سنتين، بل هو تجربة أخرى في جيل أو جيلين لا تأمين على فشلها أو نجاحها، وهذا هو موطن الداء الهيكلي الذي تتحمل فيه الدولة المسؤولية الكاملة. فنصف الشعب أمي وربعه يعاني من الأمية الوظيفية، والربع الباقي فيه أقلية ناجية تحتقر الباقي، وفيه جزء كبير من المتعلمين الذين يصارعون الحياة اليومية في وظائفهم كطبقة متوسطة إذا كانوا نزهاء، أو يحترفون الوصولية واستغلال المناصب تماشيا مع اندحار القيم المرتبطة في جزء أساسي منها بفشل نظام التربية و التعليم.
ورغم كل هذا، كان من الممكن أن تكون للحكومة الحالية أو السابقة سياسة ثقافية واضحة تحاول أن تدعم ما هو موجود وترقى بالكتاب والكاتب والناشر، وتشجع على القراءة في إطار مبادرات خلاقة، يمكن أن تحيي جزءا من هذا النشاط الحيوي بالنسبة للأمة. فشعب لا يقرأ هو خطر على نفسه وعلى محيطه وعلى دولته، وباستثناء المبادرة التي سبق للوزير محمد الكحص في حكومة إدريس جطو أن أطلقها وهو وزير للشباب وليس للثقافة، وأخذت شعار "القراءة للجميع"، لم تكن هناك أي مبادرة أخرى في المجال. صحيح أن ميزانية وزارة الثقافة تأتي في ذيل الميزانيات القطاعية، ولكن بهذا القليل كان بالإمكان أن نحرك مبادرات نوعية بدل أن يصبح عنوان الوضع الثقافي في بلادنا هو الإهانة، عندما يضطر الناشرون والكتاب والتشكيليون والموسيقيون إلى تنظيم احتجاجات من أجل الحصول على دعم هزيل!
لكل ما سبق، لابد أن ننتبه لئلا يجرفنا رضى زائف عن الذات ونحن نقف على حصيلة إيجابية لمعرض الكتاب أو لإقبال معتبر على نشاط ثقافي بالمكتبة الوطنية. إن هذه مؤشرات على أن هناك أرضا خصبة يمكن إصلاحها بسياسة ثقافية ناجعة، وما هو خصب اليوم قد يتحول إلى مجرد مظهر من مظاهر الفوارق الاجتماعية أو ما يمكن أن نسميه باللاعدالة الثقافية غدا، وهذا لن يحل مشكلة التنمية في عمقها، لأن التنمية ليست هي البحث عن تطوير الإستثمارات لتشغيل الناس فقط ولا جلب تركيب السيارات أو الطائرات لبلادنا، ولكن التنمية هي الكرامة، والجهل هو أكبر مس بالكرامة الإنسانية، أما إذا تزاوج مع الفقر فإننا سنكون إزاء قنابل موقوتة تهدد الاستقرار، وهذا خطر ما بعده خطر ما دام أن بترول المغرب هو بالضبط هذا الإستقرار.