سمير عبلة*
يقوم التعليم الفعال على جعل مختلف مقارباته تستحضر من جهة خصوصية المعرفة، ومن جهة ثانية ذات المتعلم، فلكي يتحقق التفاعل مع المادة المدرسية يجب أن يشارك المتعلم في بنائها، ويقتصر دور المدرس على مراقبة وتوجيه هذا التفاعل، لكي يتحقق تحول المتعلم نحو ما تصبو العملية التعليمية التعلمية لتحقيقه، بعيدا عن كل ما من شأنه أن يعرقل هذا التحول، فالوعي بعوائق التعلم وبآليات تحققه سيجعل من كل تدريسية تتجه نحو تحقيق الهدف المنشود من خلال كل حصة دراسية، بغض النظر عن طبيعة المادة ومحتوى مضامينها المعرفية، شريطة أن تتحقق شروط انخراط المتعلمين في صيرورة التعلم، حتى لا ينسحبوا في صمت مريب يوهم بأنهم يتعلمون في حين إن الواقع يحول دون تعلمهم.
إن شروط التعلم الفعال يجب أن تستحضر في ثناياها متغيرات عدة، ترتبط أهمها بمتغير المادة الدراسية، بالإضافة إلى متغير سيكوسوسيولوجيا المتعلم، وأخيرا متغير المادة المدرسة. إن هذه المتغيرات مجتمعة تتضافر بشكل نسقي لتؤثر في مختلف التفاعلات والتحولات التي ترافق كل فعل تعليمي تعلمي، ومن شأن الوعي بها تحقيق مردودية أفضل، كما أن إهمالها سيؤدي إلى الفشل الذريع في تحقيق التحول المنشود.
وللوقوف عند مدى تحقق هذه الأركان في سيرورة نسق تعليم وتعلم الفلسفة بالمدرسة المغربية، سنحاول تشريح واقعه في ظل هذه المعطيات لفهم أزمته بشكل عميق؛ وذلك من خلال الإجابة على جملة من التساؤلات نلخصها فيما يلي:
هل يستجيب درس الفلسفة بالمدرسة العمومية المغربية لمقومات العملية التعليمية التعلمية أم إنه درس يحتضن ويكرس أزمتنا التربوية والتعليمية؟ ما مظاهر هذه الأزمة؟ وكيف نجعل منه درسا في التفكير النقدي الحر الذي يساهم في تحول المتعلم والمجتمع على حد سواء؟
يمكن القول إن أزمة درس الفلسفة بالمغرب لا تتوقف عند مظهر واحد بل تتعدد مظاهرها بتعدد مداخل أزمته، والواقع أن فهم هذه الأزمة بعمق يقتضي الوقوف على ما يحدث في الفصول الدراسية من ممارسات تكرس هذه الأزمة وتزيد في استفحالها، بدءا بالمذكرات التنظيمية، مرورا بالطرائق البيداغوجية والديداكتيكية، وصولا إلى المحتويات والمضامين المعرفية؛ وذلك بهدف الوقوف على ما يتم تكريسه من عوائق تحول دون تحقق التعلم الفعال المبني على عقلنة ديداكتيكية تراعي متغيرات عدة أتينا على ذكرها. ويمكن تبعا لذلك تصنيف مظاهر قصور درس الفلسفة من خلال ظواهر تتكرر باستمرار وتحضر في ممارسات المنظرين للدرس والقائمين على تنفيذه. ويمكن تحديدها كما يلي:
الفلسفة درس في الدوغمائية:
تشكل الدوغمائية والوثوقية العمياء أبرز ما يعانيه تعليم وتعلم الفلسفة بالمدرسة المغربية؛ إذ يتحول درس الفلسفة الذي يفترض فيه أن يشكل سياقا لتدريب المتعلمين على التفكير الحر واكتساب آلياته إلى حلقة اختناق للدعاية الإيديولوجية بكل ألوانها، فتتكلس أفكار المتعلم في شكل قوالب دوغمائية مغلقة يصرفها الأستاذ داخل الفصل كمفاتيح سحرية لكل القضايا والإشكاليات التي يطرحها هو أو يثيرها تلامذته بأسلوب متشنج في الغالب يتعارض مع روح الفلسفة الأصيل.
لقد تحول مدرس الفلسفة إلى داعية ديني يكرس الحقائق الجامدة ويروج للأنساق المتكاملة التي تدعي الشمولية والحقيقة، فيخلق بذلك "ببغاوات بشرية" تجتر أفكارا جاهزة وتصورات طوباوية حالمة. وتكرس التوجيهات التربوية والمذكرات الإطار للتقويم هذا الواقع؛ ذلك أن صيغ الأمر التي توجهها للأستاذ والمتعلم على حد سواء تحول دون تحقق التعلم الفعال، الذي لا يتم بصيغة الأمر التي تحمل الكثير من الخوف والتوجس وتساهم في غياب الحوار والمناقشة بين أطراف العملية التربوية.
كما أن مواضيع التقويم وصيغها المتكررة مع نهاية كل سنة دراسية تكرس هذا التوجه الدوغمائي، وتجعل من درس الفلسفة درسا نمطيا تقليديا لا يتحقق فيه لا إبداع المتعلم ولا إبداع الأستاذ على حد سواء. فيكون ذلك سببا في غياب تحول أطراف العملية التربوية الذين ينخرطون في دورة الإنتاج الجاهز الذي لا يحقق ما تصبو المدرسة لتحقيقه، فيتوهم الجميع أن التعلم يحدث والإنتاج يتطور، في حين إن البداية ما زالت تراوح مكانها.
الفلسفة درس يكرس عوائق التعلم:
يوحي الاشتغال في درس الفلسفة للوهلة الأولى بأنه درس يحطم ويفكك عوائق العلم، على الأقل عندما يشتغل على تمثلات المتعلمين ويحاول دفعهم إلى تغييرها وتجاوزها، في حين إن العكس هو الحاصل تماما. فالتركيز على بعد السؤال الإشكالي في درس الفلسفة بطريقة جاهزة لا تمنح للمتعلم إمكانية المشاركة في بنائها وتعمق لديه ذلك التمثل الشائع حول الفلسفة، الذي يحصر مهمتها في طرح الأسئلة دون الاهتمام بتقديم الأجوبة حول المعضلات الفكرية التي يستشعرها المتعلم، مما يوحي في أذهان المتعلمين بأنها فكر عدمي لا يقدم أي حلول لمشكلات الواقع والعصر.
كما أن عرض أطروحات الفلاسفة مبتورة عن سياقها والتركيز على كمها بدل نوعيتها يدفع المتعلم إلى الاعتقاد أن التفلسف يتلخص في تملك أكبر قدر ممكن من المعلومات والمعارف الفلسفية، مما يحول دون تعلمه ممارسة التفكير في ما يواجهه من قضايا وإشكالات.
كما أن بناء الدرس بعيدا عن واقع المتعلم يحول دون انخراطه الفعلي والجاد في سيرورة التعلمات، فمنهاج المادة يقترح على المدرسين جملة من الوضعيات-المسألة المفترضة التي تجذب انتباه واهتمام المتعلم وبالتالي لا يتحقق انخراطه في استشعار الإشكالات الفلسفية ولا يقبل على طرح التساؤلات لأنها لا تنبع من صميم واقعه ولا تثير اهتمامه. فيضيع بذلك الهدف الأساسي من درس الفلسفة المتمثل في دفع المتعلم للتفكير وطرح الأسئلة حول ما هو سائد ومألوف.
ج-الفلسفة درس في اللاعقلانية الديداكتيكية:
إن الحديث عن ديداكتيك درس الفلسفة يجعلنا نستشعر خطورة ما أصاب الدرس الفلسفي من معضلات جعلته درسا في كل شيء إلا في الفلسفة؛ ذلك أن الاعتقاد السائد بأن الديداكتيك يتيح إمكانية تجاوز مختلف معضلات العملية التعليمية التعلمية، أدخل درس الفلسفة في نمطية غير معهودة، حيث طغيان النماذج الجاهزة والخطاطات التعميمية المغرقة في التقنية الإجرائية التي لا تراعي في المقام الأول طبيعة وخصوصية المادة، لقد حنط الديداكتيك درس الفلسفة واختزله في مجموعة من العمليات المتعاقبة التي ينجزها الأستاذ رفقة متعلميه دون وعي أو فهم لمعناها، فكل ديداكتيك لا ينتبه لخصوصية المادة ولا يستحضر ما يعوق التعلم يكون مصيره الفشل، لأنه لا يشتغل وفق ما يناسب المادة ولا يدفع المتعلم إلى التفكير كما تفكر المادة الدراسية.
لذلك نجد تغييبا شبه تام للمضمون المعرفي للفلسفة الذي تم تغييبه نتيجة سوء فهم للأطروحة الكانطية، القائلة بأنه "لا يمكن تعلم الفلسفة بل يمكن فقط تعلم التفلسف"، فلا يمكن للأستاذ أن يدفع المتعلمين إلى التفلسف خارج الأنساق الفلسفية وإلا أصبح درس الفلسفة درسا في شيء آخر غير الفلسفة. وهنا لا بد أن نشير إلى أن توظيف الديداكتيك في درس الفلسفة يجب أن يتم من داخل الفلسفة بالانفتاح على ما جادت به قريحة الفلاسفة في مختلف القضايا التربوية والبيداغوجيا للعثور على عناصر ديداكتيكية في ممارساتهم، فالفلاسفة معلمون قبل أن يكونوا فلاسفة.
د-درس الفلسفة تكريس لفشل الرهان على التدريس بالوضعيات المسألة:
لقد ساد اعتقاد شائع لدى القائمين على وضع خارطة طريق لدرس الفلسفة أن الاستنجاد بما جد في حقل علوم التربية وعلم النفس المعرفي والديداكتيك كفيل بانتشال هذا الدرس من معضلاته، وتم الحديث عن تنويع لمداخل هذا الدرس، فكانت الوضعية المسألة إحدى أهم المداخل التي أقبل الأساتذة على توظيفها بشكل مغري يوحي بأنها ستدفع المتعلم إلى تملك كفاية السؤال.
والواقع أن هذا المبتغى ظل بعيد المنال؛ ذلك أن مختلف الوضعيات لا تنطلق أولا من واقع المتعلم، وبالتالي لا تثير اهتمامه، وثانيا أن العديد من هذه الوضعيات لا تضع المتعلم أمام قلق المعرفة الذي يميز الفلسفة عن باقي الأنساق المعرفية الأخرى، فترسخ في ذهنه أننا بصدد البحث عن حلول لمشكلات معطاة، وهذا يتعارض مع طبيعة الفلسفة التي تقوم بالأساس على إبراز الإشكالات وبنائها قبل التفكير في حلولها التي تبقى مع ذلك قابلة للتعديل والتغيير، وهو ما لا تكرسه ممارسة الأستاذ ولا يتحقق إدراكه في أذهان المتعلمين.
وبالتالي، فإننا في درس الفلسفة في حاجة إلى وضعيات إشكالية تتناسب مع طبيعة المادة ويكون مصدرها تاريخها. إن تموقع المهمتين بدرس الفلسفة ضمن أنساق معرفية تدعي إمكانية توفرها على حلول جاهزة لمختلف معضلات درس الفلسفة اعتقاد واهم لا يتماشى مع ما يميز الفلسفة ويمنحها خصوصية تفردها، بل أكثر من ذلك سيؤدي إلى تحنيطها إذا تم تغييب هذه الخصوصية.
ه-درس الفلسفة وغياب تجديد المعرفة الفلسفية:
مما لا شك فيه أن المعرفة الفلسفية تتميز، مثلها مثل باقي الحقول المعرفية الأخرى، بخاصية الدينامية والتحول التي تميز مختلف أنساقها ومدارسها، ومن شأن عدم مسايرة مدرس الفلسفة والمهتمين بقضايا تعليمها وتعلمها أن يجعل منها حقلا معرفيا جامدا لا يساير ما جد من تحولات يشهدها العالم.
لم تعد الفلسفة اليوم مجرد تفكير في قضايا ميتافيزيقية متعالية عن واقع الإنسان، بل تحولت مهمتها إلى ممارسة الحفر والنقد والتفكيك كمنهج يمارس على الأرض أكثر مما يمارس على الأفكار في العديد من الحالات، وهنا نستحضر التداخل بين الفلسفة والعديد من الحقول المعرفية للعلوم الإنسانية، فمن الصعب اليوم أن نصنف الفلاسفة، فمجالات اهتمامهم لا تقتصر على الفلسفة الخالصة فقط، بل تتناول قضايا السياسة والاجتماع وعلم النفس والفن واللغة والآداب... لذلك، فإن سجن درس الفلسفة في قضاياه التقليدية أفرغه من مضمونه الحقيقي وجعله لا يثير رغبة المتعلمين في الانخراط فيه، لأنه بعيد عن اهتماماتهم ولا يتناول قضايا عصرهم، فالتعلم الفعال والانخراط في سيرورته لا يتحقق بعيدا عن قضايا العصر وإشكالاته حتى تنسجم المدرسة وتنفتح بشكل عام على محيطها المحلي والكوني.
خاتمة:
واهم من يعتقد أن أزمة درس الفلسفة بالمدرسة العمومية المغربية يمكن فهمها وتجاوزها من خلال مدخل وحيد–فلسفي، بيداغوجي، ديداكتيكي، تاريخي-بل من خلال استحضار جميع المداخل التي ترشد إلى هفواته. كما أن الحلول المقترحة لا تدعي الاكتمال والنجاعة، ولا يمكنها أن تتلخص في إجراءات بعينها تستثني السياق الاجتماعي والسياسي وتقتصر على العودة إلى تاريخ الفلسفة لتأصيل الممارسة فقط، بل يجب استدعاء واستحضار باقي المتغيرات: متغير الخصوصية المجتمعية، ومتغير حضور درس الفلسفة في فضاء المؤسسة التعليمية، وأخيرا متغير ما جد في حقل علم النفس المعرفي والتربوي، والهدف من ذلك هو محاربة كل أشكال الحلول والمقترحات الدوغمائية الاختزالية.
صحيح أن الخيار البيداغوجي والديداكتيكي مهم لكنه يبقى بدون فائدة إذا غيّب النسق المعرفي الفلسفي؛ لذلك وجب الانتباه إلى ضرورة إعادة الاعتبار للمعرفة الفلسفية، فلا يمكن أن نتفلسف ونبني ذات المتعلم خارج هذا النسق، بل من داخله وبواسطته، فهو الذي يمنح المدرس والمتعلم إمكانية الاختيار والتنويع في الممارسة وفي تبني المواقف، فتتحقق بذلك فرادة أسلوب المدرس من جهة، وتتعدد الإمكانات أمام المتعلم ليبرز إمكاناته الفكرية من جهة أخرى، من خلال التفاعل مع الموروث الفلسفي لينسجم سلوكه ومواقفه مع قيم التفكير الفلسفي الأصيل التي تحارب كل أشكال التعصب والعنف وتفسح المجال للتعايش والتسامح.
لقد كانت الفلسفة دوما منشغلة بهموم المدينة، حتى وإن انعزل بعض الفلاسفة في أبراجهم العاجية إلا أن همومها حاضرة في تفكيرهم. لذلك، فإن المدرسة المغربية اليوم مدعوة إلى أن تجعل من درس الفلسفة مقدمة لمشروع مجتمعيي وخيارا استراتيجيا لمواجهة ما يحدق بالمجتمع من أخطار وعلى رأسها أخطار التطرف الديني والنزعات العرقية المنغلقة على ذاتها التي تهدد وحدة المجتمع في ظل ما يشهده العالم من تجاذب وصراعات، أضحى معها الانفتاح على المحيط العالمي ضرورة وشرطا لكل تقدم وإلا تخلفنا عن ركوب قطار التنمية الذي يبقى ركوبه رهين بتأهيل المتعلم المغربي بتملك مفاتيح اقتحام الفضاء العمومي، وفي مقدمتها العناية بالعقل التواصلي الذي يجعل مواطن الغد قادرا على تحمل هموم المدينة والمشاركة في انتشال وطنه من مختلف الأزمات المحدقة به.
*مفتش تربوي لمادة الفلسفة باحث في التربية وسوسيولوجيا الهشاشة