ليست السياسة وحدها التي ماتت، ولكن هناك انحدار في كل المجالات، كان فلاسفة الغرب يتحدثون سابقا عن موت الإله وموت الإنسان وموت الإيديولوجية، واليوم لم يبق سوى الحديث عن موت السياسة. في مجال ولدت فيه السياسة ومفاهيمها الحديثة هناك معاناة، وعندما ننتقل إلى هنا فنعثر على الكارثة. موت السياسة في الغرب تعني موت الأفكار السياسية وليس البرامج والتأطير، لكن عندنا هي موت لكل شيء.
مات كل شيء. انحدر الفن من الروائع إلى الكلام "الزتقاوي" الذي لا قيمة له، وأصبحت لغة الشارع تمثل فنا، فتحكم الشارع في الذوق ولم يعد الفنان هو من يصنع الذوق. وانحدر الكتابة من شعراء يمشون على البيض ومقلون ولا ينشرون القصيدة إلا بعد اكتمالها، إلى زمن يمكن أن يتحول كاتب فيسبوكي إلى شاعر بدواوين متعددة، وانحدرت المدرسة إلى موقع أصبح فيه المدرس لا يتقن المعارف ناهيك عن البيداغوجيا. وانحدرت السياسة من زعماء لا يهمهم غير الوطن إلى زعماء يتسابقون على المغانم. ومن خطابات تزلزل الأرض وتقترح المخارج وتعارض بشرف إلى كوميديا سيئة الإخراج.
لماذا وصلنا إلى هذا الحد؟ وأي حد؟ حسب تقرير صادر أخيرا فإن واحد (1) في المائة من المغاربة من يهتم بالسياسة. رقم خطير للغاية.
تحدثت الفصول الأولى للدستور عن دور الأحزاب السياسية في تأطير المواطنين، ومكّن القانون هذه التنظيمات من الوسائل المادية والقانونية للقيام بدورها، بل إنها تكلف خزينة الدولة كثيرا، وهي مبالغ تستخلص من الخزينة العامة أي من جيوب دافعي الضرائب. ليس احتجاجنا على حصول الأحزاب على الدعم العمومي، ولكن لأن هذا الدعم يعطى ويُمنح دون دفاتر تحملات، وهي واجبة اليوم للخروج من مأزق موت السياسة.
دفاتر التحملات للأحزاب السياسية هي قيامتها، التي ستخرجها من قبرها وتبعثها من جديد. ليست السياسة مكان للاغتناء. ومن أراد الغنى فليحترف التجارة ومن أراد السياسة فليحترف التضحية، ولا يوجد عمل سياسي دون تضحيات، هاته الأخيرة التي لا تجتمع مع التطلع لتحقيق مصالح صغرى أو كبرى.
الرقم خطير. لكن كثير من الأحزاب لا تنظر إليه. فما معنى أن يقول الزعيم المعزول أنا انتخبني الشعب. فهل أنت أصلا تمثل شيئا وسط الشعب حتى ينتخبك الشعب؟ لا يعني أنه ليس منتخبا، لكن كان وسيبقى لزاما على المنتخبين أن ينظروا إلى حجم ما يمثلون وسط المجتمع. هذا ما يعطيهم قيمة وما يجعلهم يعرفون أنفسهم جيدا.
ليس طعنا في الأحزاب ما نقول. ولكن اعترافا بما وصلت إليه من انحدار خطير، حيث تتصارع اليوم على حقل هي غائبة عنه. كيف تسمح لنفسها بادعاء التمثيلية وزعم التجدر الشعبي وهي برمتها وحتى لو اندمجت في حزب واحد لا تمثل شيئا.
لن نخوض في أسباب وصولها إلى الهاوية ولكن ندق ناقوس الخطر، فمن المهم التوقف عن اللحظة قصد وقف الانهيار والتفكير في الانطلاق.