الخَطابة عند العرب، الكلام المنثور مثْل الرسالة التي لها أوّل، وآخِر، ومدة، وغاية مثْل الرسالة البليغة التي بعث بها جلالةُ الملك إلى قادة الدول الإفريقية في مؤتمرهم المنعقد في [أديس أبابا] يوم (29 يناير 2018)، وتلاها رئيس حكومة يُدْعى [العثماني]، فلم يكنْ في مستواها، لأنه لم يستوعب معناها، فما عاشها، ولا قرأها بالمستوى الذي يليق بفحواها، ومضمونها، ومعناها، على اعتبار أنها رسالة مَلَكية تاريخية بما كانت تَعبَق به من أفكار رصينة، وتوجيهات سديدة، وتعبّر عن آفاق عديدة، لكنّ الذي ألقاها لم يكن فحلا، ولا فصيحًا لشَدِّ الأسماع بلغتها، وإيقاعها، لأن الرسالة تختلف عن الخُطَب الحزبية الرتيبة، التي أَلِفها، وكانت خرجَتُه إلى [إثيوبيا] هي الأولى إلى الخارج منذ ابتُلي به شعبُنا على رأس حكومة تنوّعت إخفاقاتُها، وتعدّدت بسببها انكساراتُنا، وتناسلت خيابتُنا، والآن ظهر ضعفُ رئيس الحكومة حتى في تلاوة رسالة ملكية أمام الملإ؛ يا لَلْخيبة!
والخَطابة ليس الغرضُ منها تعليمَ الكلام البليغ فحسب، ولكن الغرض منها عرضُ الأفكار، بأسلوب مقنع، ولها عند الأدباء ثلاثة أقسام: الأول الاختراع، وهو الكشف عن الأدلّة والبراهين.. والثاني الترتيب، وهو معرفة النظام الذي يجب أن تتسلسل فيه الأدلّة.. والثالث البيان، حيث يجب أن تُتْلى الرسالةُ الخطابية بكلام واضح، وأسلوب فصيح، يعطي كلَّ كلمة أو عبارة أو تساؤُل أو استعارة، حقَّها في النطق والأداء.. وقد يضاف إلى هذه الأقسام، قسمٌ رابعٌ، وهو حُسْن الإشارة، ودقّة الأداء، وروعة الإلقاء، وهو ما يعنيه الفرنسيون بـ: [la lecture magistrale]، وهذا كله للأسف الشديد، كان منتفيا عند قراءة [العثماني] للرسالة الملكية التاريخية في [أديس أبابا]، وهو ما اندهش له العارفون بفنّ الخطابة، حيث قرأها [العثماني]، وكان في تلاوتها سريعًا، وباردًا، وشاردًا، منفصلا عنها؛ فما كان يعيش مضمونَ الرسالة؛ فلا هو تدرّب على قراءتها، ولا هو نقل أحاسيسَ جلالة الملك نصره الله، ولا هو توفَّق بفنّية يفتقر إليها في تشخيص ما أراده جلالة الملك من رسالته السامية.
والغرض من الخطاب، (والرسالة الملكية السامية كانت خطابا)، هو ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور مستقبلهم، ومعاشهم، ومعادهم، وهو الهدف من الرسالة الملكية الموَجَّهة إلى قادة الشعوب الإفريقية؛ والخطابة عند [أرسطو] مبنية على المبادئ الكُلّية، ويعرِّفها بقوله إنها الكلام المقنع؛ والأدلّة عنده قسمان: الأول خارجٌ عن الفن كالشهادات؛ والثاني نتيجة للفنّ بالبراهين، وطُرق الترغيب، وإثارة العواطف، وهي كلها أمور توفّرت في الرسالة الملكية الرصينة معنًى ومبنًى، لكنّ مَن تلاها لم يكن في مستواها عندما قرأها، كما هو ليس في مستوى سياسة جلالة الملك حتى ينفّذَها بحذافيرها، وهو ما جعل جلالتَه يعلن الزلزال السياسي، الذي عصف بالفاشلين، والمنتفِعين، ففي ميدان السياسة الخطأُ مغفور، لكنّ الضعفَ منكور؛ وهذا رئيس حكومة كان ضعيفًا في قراءة رسالة ملكية في مؤتمر قارّي، فكيف به سينجح في تنفيذ سياسة ملكية في البلاد، وهو أضعف من الضّعف نفسِه، وتبّا للديموقراطية البئيسة التي أتت به إلى منصب يكبره..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما بعث برسالة إلى ملك أو قيصر، يحملها مبعوثٌ مُفَوَّهٌ، لا يناولها مَن بُعثت إليه، بل يفتحها المبعوث نفسُه أمام الملك، فيقرؤها عليه بالطريقة التي يجب أن تُقرأَ بها رسالةُ إمام المرسلين، ممّا يكون له وقعٌ على المرسلة إليه؛ وكذلك كان يجب أن تُقرأ الرسالةُ الملكيةُ على قادة الدول الإفريقية في [إثيوبيا]؛ لكنّ حاملَها، وقارئَها، لم يكن في مستواها، ولا أهلاً لإبراز فحواها، وتبيان محتواها، وإدراك جدواها، لضُعفٍ فيه لا يعيه، وهيهات أن يعيه، وبِطْنَتُه أذهبتْ فِطْنتَه؛ فهو مجرّد جلاّد للشعب، ولا علاقة له بفنون الكلام الذي تفاخرتْ به العرب، وفيه تبارزت، حتى قيل: (العربي لسانُه أذكى من عقلِه).. فهؤلاء ما نصرونا، ولا هم شرّفونا؛ فهم مجرّد أصحاب دكاكين السّكَّر، والزيت، والمحروقات، و(البوطة)، وكلامهم هو صياح الباعة في الأسواق ليس إلا.. وعلى هذا الأساس، ولكي لا تتكرّر هذه الملْهاة، يجب خلق منصب خاصّ بـ(الممثّل الشخصي لجلالة الملك) وقد كان هذا المنصب موجودًا ذات يوم؛ يتولاّه وطنيٌ غيور، يتوفّر على كل المؤهلات السياسية، والعِلمية، والأدبية، إلى جانب الوطنية.. فتمثيل الملك ليس بالأمر الهيّن في مثل هذه المؤتمرات، ومن شروط (الممثّل الشخصي لجلالة الملك) هو ألاّ يكون متحزِّبًا، بل ملكيّا، ومغربيا؛ وهذا المنصب المقترح سيجنّب بلادَنا مهزلة أخرى كمهزلة [العثماني] في [أديس أبابا]؛ أي والله!
صاحب المقال : فارس محمد