أيّة أمّة كائنة ما كانت، عندما تهمّ بالنهوض، وقبْل أن تضع التصاميم، والبرامج، والمخططات، فإنها أوّلا وقبْل كل شيء، تحرص على أموالها من اللصوص، والمختلسين، والمبذّرين، والعابثين؛ وهؤلاء يوجدون ضمن ما نسمّيهم النخبة السياسية، ومصْدرهم أحزاب، ومنظّمات، وأسَر نافذة في المجتمع، وتُسمّى بالفرنسية [les grandes familles]؛ بل هي أسَرٌ لها عقلية من نوع خاص، إذ تعتقد أن مكانها الطبيعي هو الوزارات، والمناصب، والسلطة؛ فهي إذن فوق الشعب، وهذه ظاهرةٌ قديمة، حيث اشتهرتِ البيوتات بالوزارة أو الولاية، وأسوق أمثلةً من التاريخ، حتى أتجنّب إعطاء أمثلة من واقِع بلادنا؛ فأذكر [آل بَرْمك؛ وآل قَحْطبَة؛ وآل سَهْل؛ وآل طاهِر..] وغيرهم في العصريْن العباسي الأول والثاني؛ وكانت المناصب في هذه الأسر تنتقل من فرد إلى آخر بالوراثة، ومن هذه الأسر الوزراء، والقواد، والعمّال، والكتّاب، ورجال المال، وسماسرة الأعمال؛ وهؤلاء جميعهم، هم المتحكّمون في الحال، والقابضون بيدٍ من حديد على الاقتصاد، والتجارة، والفلاحة؛ والمواطنون، هم مجرّد خمّاسين أو خَدم وحَشم.
هذه الأسر المنقضَّة على رقبة الشعب، والمالكة لثروات البلاد، والمتحكّمة فيها، كان لابدّ لها من أن تطوّرَ نفسَها لتحافظ على وضعها، بحيث لـمّا برزت ظاهرة الأحزاب، وتناسلت، وتعدّدت، خلقت هذه الأسرُ لنفسها أحزابًا، واختبأت من وراء شعاراتها، لإخفاء الطابع النفعي، والمقصد الخفي من إنشائها؛ فلا غرابة إذن إذا وجدت الحزبَ وراءه شخصٌ، واسمٌ، وأسرةٌ؛ وحتى رئاستُه تتمُّ عن طريق التوريث، ومن هذه الأحزاب يتمّ اختيارُ الوزراء، وكتّاب الدولة، لسدّ الطريق أمام أبناء الشعب الأكفاء، لأنهم يشكّلون خطرًا على هذه [les dynasties] إن هم وصلوا إلى السلطة؛ بل ولا غرابة أن ترى مثلاً واحدًا منهم، ظلّ في زعامة الحزب ثلاثين سنة أو أكثر، واختيرَ وزيرًا لعدة وزارات؛ وآخر تجده وزيرًا دوْمًا أبدًا في قطاعات لا يفقَه فيها قيْد أُنملة؛ لذا فهم يحرصون على أن يكون لأبنائهم شهادات عليا أجنبية لا وطنية، وإذا كان بلا شهادة، اشتروها له من جامعات خاصّة، ليبدو أحقّ بالمنصب من أبناء الشعب البسطاء..
هذه الأحزاب التي أنشأتها أسرٌ (برجوازية)، ترفع كشعار لذرّ الرماد في عيون الشعب: [الملكية؛ الوحدة الترابية؛ إصلاح الوضعية]؛ لكنك لو دقّقتَ النظرَ جيّدا، لما وجدتَ من هذه الأسر فردًا مات شهيدًا من أجل الملك، أو الوطن، عكْس أبناء الشعب المخلصين؛ لأن هذه الأسر توجّه أبناءَها نحو المال، والأعمال، والمناصب العليا؛ أمّا الدفاع عن حوزة الوطن، ومقدّساته، فمتروكٌ لما يسمّى بالفرنسية [le petit peuple].. يعطي الفيلسوفُ الوجودي الذي هجر الحزبَ الشيوعي ونعتَه بأقذع النعوت، وأعني به [جان بول سارتَر] الذي يقول: [إن (ديغول) في ولايته الأولى بعد الحرب كان صائبا؛ وولايتُه كانت محمودة لعدة أسباب؛ ولـمّا عاد في الولاية الثانية التي كانت من ورائها أيادٍ قذرة وخفية، فإنّ (ديغول) أنشأ حزبًا (ديغوليًا)، واشتُقّت التسمية من اسمه؛ فمكّن اللصوص من احتلال مناصبَ هامّة في الدولة، ممّا سينعكس سلبًا على فرنسا مستقبلا، وهو ما سيذكّر بعصْر (نابليون الثالث).].. وفي بلادنا حدث الشيءُ نفسُه، إذِ احتلّ المناصبَ العليا والنافذة لصوصٌ، وعبدةُ مالٍ، وسلطة، وهُمُ الذين يتلاعبون بالشعب من وراء ستار السياسة، والديموقراطية، والحكومة، والبرلمان، بعد انتخابات يتلاعبون فيها بأحجار على رقعة الشطرنج؛ ثم لا تلمس تغييرا أو تنمية، وإنما هناك أسعار يحدّدونها، وهم مَن استورد البضائع؛ وحقوق يضربونها حفاظا على مصالحهم المادية؛ وأشخاص يتحرّكون على الشاشة، ويصرّحون، ويجتمعون، ويمنّون بالعدالة الاجتماعية الوهمية..
هذه الأسر المختبئة وراء ستار أحزاب صورية، تحْسب لـ(مكْر التاريخ) ألف حساب، لهذا تجدها تملك جوازات سفر أجنبية، ولها جنسية تعتدّ بها وتستأنس؛ وفي هذه الدول تضع أموالها، وهي أموال تكفي لأداء ديون المغرب كلِّها.. ولتوهيم الشعب، أن له من يدافع عنه، خرجتْ نقاباتٌ من رحِم هذه الأحزاب، تدّعي الدفاع عن مكتسبات الطبقات المظلومة، فيقفل رئيسُ الحكومة باب الحوار أمامها عنوة.. فرئيس الحكومة يعرف قوّة هذه الأسر، وليخفيَ ضُعْفَه، تراه يُظهِر فحولتَه على الشعب، وإلاّ انفضّوا من حولِه، وسقطتْ حكومتُه، وذهب منصبُه.. ألا ترى الآن أنّ الموجود في الساحة وقت البرد، والثلج، هو جلالة الملك والمؤسسات المنتمية إليه مباشرة؛ ثم لا أحد من هؤلاء ساهم أو مدّ يدَ العون؟ قد يقول القارئ الكريم إنه يجب محاربة وقطْعُ رؤوس هؤلاء؛ والجواب هو: ليس هناك رؤوسٌ يجب قطْعُها؛ هل تقطع رؤوسًا (تخدُم الوطن؛ وتنشّط الاقتصاد؛ وتحضر في البرلمان؛ وتدافع عن الوحدة الترابية؛ وتفتح أوراشَ الإصلاحات)؟ كيف! فهذه ظاهرة اكتسبتْ صلابتَها مع الزمن، فصارت جزءًا من حياتنا السياسية والاجتماعية؛ فليس هناك رؤوس!