عندما فاز فريقُنا الوطني بكأس إفريقيا للأمم، بطريقة رائعة، وأداء جيّد، ونتيجة لا تقبل الجدل، قال الواصف الرياضي: [التاريخ يعيد نفسَه؛ فتلقّفها ثلّةٌ من الأصدقاء في مدينة كنتُ أعمل بها؛ ولـمّا اشتد الجدال بينهم حول ما إذا كان التاريخ يعيد نفسَه، اتصلوا بي هاتفيا ليسمعوا رأيي؛ ومعلوم أني كنت قد طردني الأستاذُ من القسم إذ عارضتُه وقلتُ إن التاريخ لا يعيد نفسَه، وبذلك أجبت الأصدقاءَ.. فطلبوا منّي توضيحَ ذلك بصياغة مقالة في الموضوع، فوعدتُهم، ومن ذلك هذه المقالة: دعْنا أولاً نستعرض النظريات الكبرى لفلاسفة التاريخ بخصوص حركة التاريخ؛ هناك فلاسفة ربطوا الزمانَ بالخلق الأوّل، وبمصير الإنسان في الدنيا، وبنهاية يرتبط بها حسابٌ، وعقابٌ، وثوابٌ، ومن أبرز هؤلاء: [فيلون اليهودي] (حوالي 25 ق.م، و50 بعد الميلاد) بالنسبة إلى اليهودية..
وهناك [القدّيس أغوسطين: 354 ــ 430] بالنسبة إلى المسيحية؛ إلى جانب [ابن خلدون] المتوفّى سنة: 808هـ بالنسبة إلى الإسلام.. وهناك جماعة ربطت التاريخَ بأحداث فلكية كونية، ورأتْ أنه يسير على شكل دوائر تفضي كلُّ واحدة منها إلى الأخرى، وهؤلاء كانوا متأثرين بعلم الفلك، من أمثال [كيبلر: 1571 ــ 1630]، و[غاليليو: 1564 ــ 1642].. وهناك فئة ثالثة ربطت التاريخَ بالاقتصاد المادي، مثل [ماركس: 1818 ــ 1883] بالإضافة إلى ما قال به [كارل مانهايم] من اجتماعية المعرفة؛ وهؤلاء يرون أن التاريخ يسير كسهم إلى الأمام، ومع ذلك لا أحد من هؤلاء قال إن التاريخ يعيد نفسَه في ما أعلم.. صحيح أن التاريخ يعيد أحداثَه؛ لكنّه لا يعيد نفسَه إطلاقا؛ وإنما الغموض ناتجٌ في الأذهان بسبب لفظتَيْ: [نفسِه، وأحداثِه]؛ لكن لو عرضتَهما للتحليل اللغوي، لزال هذا الغموض والالتباس.. لهذا كان [ڤولتير] يقول لمحاوره: [حدِّدْ ألفَاظَك!]..
يُتَّفق كثيرا أن يمرّ بالإنسان الواحد حادثٌ في طفولته، ثم يتكرر في شبابه، ثم في شيخوخته، ولكن لا يُتَّفق أبدا أن يعودَ الإنسانُ إلى مرحلة الرضاع بعد مرحلة التسنُّن، أو إلى مرحلة المراهقة بعد اكتمال الشباب، أو إلى مرحلة الفتوة بعد وهن المشيب؛ فإنّما يعيد التاريخ حوادثه، ولا يعيد مراحلَه.. وهنا سنعطي أمثلةً غريبةً ومذهلة لأحداث تكرَّرتْ، ممّا يجعل الناسَ يتوهّمون أن التاريخ يعيد نفسَه، فيما هو فقط يعيد حوادثه.. مثلا الرئيس الأمريكي [لينكولن]، هو كائن تاريخيٌ لن يتكرّر، ولن يكرّره كائنٌ تاريخي آخر اسمُه الرئيس الأمريكي [كيندي]، لكنهما حدثت لهما معًا في زمانين مختلفين، حوادثُ متشابهة؛ كيف ذلك؟ اِنتبِهْ جيّدا سيدي القارئ الكريم، لأن الرأي الأخيرَ سيكون لسيادتك، ولك كل الفضل..
الرئيس [لينكولن]، والرئيس [كيندي]؛ اختيرَ الأولُ رئيسًا سنة [1860] واختيرَ الثاني رئيسًا سنة [1960]، وكلاهما مات مقتولا.. الذي تولّى الرئاسةَ بعد [لينكولن] اسمه [جونسون]؛ وكذلك الذي تولى الرئاسة بعد [كيندي] اسمه [جونسون].. الأول هو [أندرو جونسون] وُلد سنة (1808) والثاني [لندون جونسون] وُلدَ سنة (1908).. قاتِلُ [لينكولن] ولِد سنة (1839)؛ وقاتِلُ [كيندي] وُلد سنة (1939).. كلا القاتلين اغتيل قبل محاكمته.. حدثَ للرئيس [لينكولن] قُبيْل اغتياله أن نصحه سكرتيرُه الخاص، وكان اسمه [كيندي]، بألا يذهب تلك الليلة إلى المسرح؛ وكذلك حدث للرئيس [كيندي] قبيْل اغتياله، أن نصحه سكرتيرُه الخاص، وكان اسمه [لينكولن] بألا يذهب إلى مدينة [دلاس] حيث تم اغتيالُه.. فرّ قاتِلُ [لينكولن] من المسرح الذي اقترف فيه جريمتَه، واختبأ في متجر؛ وفرّ قاتِلُ [كيندي] من المتجر الذي اقترف منه جريمتَه واختبأ في مسرح.. فهل تقول إن التاريخ أعاد نفسَه أم أنه فقط أعاد أحداثَه؟
قد يسأل القارئ الكريم: هل هناك أمثلة أخرى؟ الجواب: نعم! وهذه المرة من التاريخ الإسلامي؛ فيقول القارئ بفارغ الصبر: هاتِ! كان [الحكَم بن هشام بن عبد الرحمان الداخل] يشْبه [المنصور] العباسي.. كانت والدةُ [الحكَم بن هشام] أمازيغية؛ وكذلك كانت والدةُ [المنصور] أمازيغية.. قتل [الحكَمُ] ابنَ أخيه [الـمُغيرة]، كما قتَل [المنصورُ] ابن أخيه [السَّفاح].. سخَط [الحكَمُ] على مولاه [بدْر] وسلبَه ماله ونفاه، ولم يَرعَ حقَّ خِدمته، تماما كما قتل [المنصورُ] [أبا مسلم الخرساني] رغم ما فعله لقيام دولة العبّاسيين.. قتل [الحكَمُ] [أبا الصَّباح بن يحيى] رئيس اليمنيين كما قتل [المنصورُ] [أبا مسلم] رئيس الخُرسانيين؛ توطّدتْ دعائمُ الحكم بتأييد حكْم الأمويين من طرف الأمازيغ، تماما كما توطّدتْ دعائمُ حكْم العبّاسيين بتأييد الخُراسانيين.. فهل تقول إن التاريخ أعاد نفسَه أم التاريخ فقط أعاد أحداثَه في زمانين مختلفين، وفي منطقتين متباعدتين، بواسطة شخصين كلّ له شخصيتُه المستقلّة؟
فارس محمد