اتصلوا به يمشي وراء القطعان، فقالوا له: [ما رأيُك في ولوج البرلمان؟]؛ فتبسّم ضاحكًا من سؤالهم وقال: [أنا رجلٌ (قُبَّان)، ولا علمَ لي، ولا تجربة، ولا أُجيد الكتابة، ولا صلة لي بفنون البيان، فكيف لي أن أتبوّأ مقعدًا في البرلمان؟]؛ قالوا له: لا يهمّ يا عمّ، فنحن لسنا فرنسا، أو بريطانيا، أو اليابان؛ أنتَ قُلْ: نَعم، وعلينا التصرف في الرموز والألوان، حتى يظهر صندوقُك هو المليان؛ ونحن قادرون على ما يعجز عنه خاتمُ سُليمان؛ ألم نجعلْ من الديموقراطية ما احتارت فيه عقولٌ وأذهان؟ ألم نوفِّقْ بين كتاب (رأس المال، والبيان الشيوعي والقرآن)؟ ألم يعانق [ابنُ تيمية] أخاه [ماركس] بفضل [بنكيران]؟ فارتدى (ماركس) عِباءة الدّين، وشبَّه (ابنُ تيمية) الإلاهَ بالإنسان، واتّفقا معًا على التعاون لهدم الأوطان؟ واستعانا معًا بصندوق النقد الدّولي، كما يستعين المنافقُ بأهل الكفر على أهل الإيمان؟ فكيف بالله عليك سنعجز عن إدخالك إلى قبّة البرلمان؟
قال: [وماذا في القبّة من أفنان؟]؛ قالوا: [هما في الواقع مجلسان؛ فيهما عينان تجريان؛ فيهما من كل فاكهة زوجان؛ يطوف عليهم ولدان، بأكواب وأباريقَ وجَنَا الجنّتيْن دان؛ فيهما من الضّخامة نوعان، يصبح الشيوخ كالشبان، منْظرا، ومظهرا، وحيوية، مع روعة الفستان، وفخامة السيارة من نوع مرسيديس، أو ستروين، أو نيسان؛ وسفريات، ومبيت في أضخم فنادق البلدان؛ وتعويضات عديدة، وتقاعُد مريح، ممّا لم يحلمْ به يوما إنسان..].. قال: [أنا لا أستطيع الخَطابة، وقد خلا فمي من الأسنان.].. قالوا: [وماذا تصنع بالأسنان، ودورُك هو رفعُ البَنان، تحت البنيان؛ المهمّ هو أن ترفع كلَّ ما هو قابل للرفع من الأبدان؛ بل هناك من يرفع دوما الخمسة، وعيناه مُغْمضتان بسبب البطن المتخم والضمير التعبان؛ ومن علامات الساعة أن يوضعَ الجاهلُ في أنبل مكان، ونحن ابتعْنا الآخرة بالدنيا، وذلك من سخَطِ الواحد الدَّيان؛ ولكنْ جنّة البرلمان في سبيلها كلُّ شيء هان؛ وقد رأيتَ كيف قفزنا من الحَمارة وامتطينا الطيارة، أليس ذلك أبرز برهان، على من باعوا الضمير، في سوق الخسران؟].. وسبحان الله مبدّل الأحوال؛ من تِبْن البِرْدَعة، إلى راحة (الكوسان)، ثم سيارة عَلفُها بنزينٌ مجّانيٌ في كل آن.. يا لروعة البرلمان! فما رأيُك؟
لكنْ ما هكذا تستقيم الأمور.. ما هكذا تنهض أمّة من ساكنة المعمور.. ما هكذا تطمئنّ الشعوب على مستقبلها، وينتابها جميلُ الشعور.. ما هكذا تتقدّم البلدان، ويغمر مواطنيها الأملُ والثقةُ، ويعمُّها السرور.. ما هكذا تنفُض الدول عنها غبارَ الجمود، وتتجاوز واقعَها المكرور، وحالها البائس المجرور.. فنِفاق هؤلاء، في قصص القرآن مذكور؛ والتصويت عليهم منكور؛ والمراهن عليهم على الدوام في عيشه محسور؛ فكيف يرجى خيرُهم، والجُهّال إذا اجتمعوا في مجْمع أفسدوا؛ وإذا ائتُمنوا خانوا؛ وإذا تخوّضوا في مال الأمّة أبادوا؛ فغنِموا بمكرهم، وبكذبهم على البلاد والعباد سادوا.. فكم منهم على خيانة الشعب اعتادوا، وكلّما نصحتَهم، وذكّرتَهم، إلى ارتكاب الآثام عادوا؛ وفي نهمهم، وطمعِهم ازدادوا..
فكم منهم من يجهل حتى ألف باء الدستور.. وألف باء الهجاء، ويعوزه الإملاء، وكلُّ ما أفلحَ فيه الكذب، والمكر الدَّهاء، وذاك معشر القرّاء الأذكياء، مصدر الداء، ومنبع البلاء.. اُنظروا مِن حولكم، لتروه أتى من الخلاء، وذهنُه مملوء بالخواء، وأصبح من (النبلاء)؛ قال إيه: جاء لتحمُّل المسؤولية أمام الله، والملك، والخُوت؛ فخرق القوانين كلّها بحوافره، وجهل أبسط الأمور، وظلّ في القبة يدور، اللهم ما كان من المصلحة الشخصية، والعجرفة والغرور.. فنحن بحاجة إلى نواب مقتدرين، وبخدمة الوطن جديرين، ولا يمسّون بأقوات المواطنين، ولسنا بحاجة إلى قِطع مُجَلببة، ومُفَسْتنة، ومُطَرْبشة، تكمّل الديكور، وكأننا بإزاء لوحة بازارية من الفولكلور..
وَيْحي المتحزب الولهان، وجماعات تشبه رهوطَ الرّهبان في البرلمان، والمواطن المثقف، الكفء، مكانُه المقهى في انتظار الإعلان عن مباراة أو امتحان، حتى إذا أضناه الانتظار، ارتمى في أحضان (الشُّقوفا والشَّمان)؛ وكم، وكم، وكم همُ الذين أعوزهُم "الزمان"؛ فحاولوا العبور إلى إسبانيا أو الطليان؛ فكانوا غذاءً للأسماك بين [طنجة ووادي ألْيان]؛ فصاروا مأدُبةً لأشرس الحيتان.. إنه [اللامعقول] الذي عطّل العقول، وحوّل الفاعلَ إلى مفعول، وصوّر الوجود وكأنه [غول]؛ فكيف للبرلماني الجهول أن يبدع لهذه المشاكل أنجعَ الحلول، وهمُّه أموال الأمّة، وامتيازات يصيبها بعد الدخول، وأكاذيب حوّلها إلى محلول، يدوّخ به العقول، ويؤبّد الواقعَ المشلول، شعارهُ [أنا وبعدي الطوفان] كما قال [الويس 14]، ثم كان ما كان، يا من يفرح بمقعد في البرلمان؛ فكلّ شيء فان؛ فأين تذهب يومئذ أيها الكذّاب الجبان؛ في أمة قلبُها يمطِر وابلَ الأحزان؛ وأبدان ترثي تحت البرد وهي عيدان؛ فاشرب في البرلمان من حميمٍ آن؛ هنيئًا لك!
فارس محمد