قبل الدخول في صلب موضوع هذه المقالة، يجب أن أنبّه الجهلاء والمتعجرفين إلى نقطة هامّة، وهي أني لا يعتريني أيُّ خوف وأنا أدافع عن الوطن، وعن ملكية جنَّبت شعبنا مآسيَ شتى، وما نراه اليوم، من بلدان دُمِّرت، وشعوب شُرِّدتْ، لخير دليل على صلاحية الملكية التي مبدؤُها الشرف كما يقول [مونتيسكيو]، لهذا، فهو يفضِّلها على غيرها من أنظمة الحكم، وفي هذه النقطة وافق [مونتيسكيو] المفكّر الإيطالي [ماكياڤيلّلي]؛ وفي مقالاتي، أحرص دوما على حياة الناس الشخصية، ولا أهتم بها، لأنّ لها حرمةً وخصوصية لا يجب المساس بهما بأية حال من الأحوال؛ لكنّي أهتم بالحياة العامة، وبنشاط مواطن إذا تحمّل مسؤولية في البلاد؛ لأنّ هذه البلاد، مشتركة بيني وبينه؛ مثل لاعب الفريق الوطني إذا حمل قميص الوطن في المباريات الدولية، فإنّي أنظر إلى أدائه في الملعب، ولا يهمّني شأنٌ آخر من حياته؛ هذا ما أردتُ أن يعيه العبيدُ الجهلة.
هذا الوطن مقدّس، ولا يجب العبث بمصالحه، واستقراره، أو استعماله لأغراض شخصية، وقد تركه المجاهدون أمانةً في أعناقنا، وحرّروه بدمائهم، وحيواتهم، ولم يتلقّوا الثمن.. وإني أذكر المجاهد الراحل [حُمّان الفطواكي] رحمه الله، الذي مشّاه الاستعمار على مائدة مغروسة فيها مسامير حادّة، وكانوا يقولون له: [أتريد أن تموت على هذه المائدة، أم تريد أن تموت بطريقة أخرى؟]؛ فكان يقول: [سأموت كيفما أراد لي الله سبحانه وتعالى في سبيل هذا الوطن.]؛ فهل نترك هذا الوطن للطّغاة الجُفاة، يتملّكونه بعدما حرّره أسيادُهم؟ ففي سبيل هذا الوطن، ضحّى الرجالُ بأرواحهم، وهي أثمن ما يملكون؛ وفي سبيل هذا الوطن، نُفِيَ جلالةُ الملك [محمد الخامس] طيّب الله ثراه، ونُفِي [علاّل الفاسي] رحمه الله، وآخرون، وآخرون، نحن لا نعلَمهم، الله يعلَمهم.. واليوم، تجد من يعزّ عليه مالُه، فلا يوظّفه في بناء هذا الوطن الأمانة؛ وآخر دخل السياسة بالدين؛ وآخر وظّف الديموقراطية لبلوغ أهداف شخصية؛ وآخر كوّن حزبًا ليستغلّ المواطنين، ويكذب عليهم بشعارات زائفة؛ وآخر يأخذ من خزينة الأمة بأكثر ممّا يُسدي لهذا الوطن؛ وآخر يأخذ من أقوات الفقراء ليزيد في مكاسب الباحثين عن الثراء؛ وآخر يتآمر مع المنظّمات الهدّامة ضد سلامة واستقرار بلده؛ وهكذا..
ذات يوم، كلّف جلالة الملك [الحسن الثاني] طيّب الله ثراه، السيد [محمد بالحسن الوزّاني] رحمه الله، ليترأّس وفدًا إلى بلد إفريقي، وناوله ظرفًا به مال لينفقَ منه على أعضاء الوفد؛ لكنّ [الحسن الوزاني] أحسن صَرفَ ذلك المال في الأكل، والمبيت؛ ولـمّا عاد، أعطى لجلالة الملك ما تبقّى منه، وكان يفوق الثلثيْن، لردِّه إلى بيت مال المسلمين؛ فقال له جلالةُ الملك طيب الله ثراه: [أكثر الله من أمثالك]، وكان المغرب في أول عهده بالاستقلال، وفي طور البناء، بعد وفاة جلالة الملك [محمد الخامس] طيّب الله ثراه.. فأريني اليوم، ولو واحدًا من أشباه [بلْحسن الوزّاني؛ أو أحمد بلافْريج] أو في كفاءة [الطيبي بنهيمة]، أو في نظافة يد [باحنيني]؛ فوالله لو أضناك البحث وأشقاك دهرًا، لَـملِّئْتَ يأسًا وحسرة، ولتوقّفتَ عن البحث قهرًا، لأنك لن تجد إلا اللصوص، والتجار، والسماسرة، وموظّفي الدّين، ومستغلّي الوطن والمواطنين..
إنك لن تجد إلا أشباهَ الرجال، وما هم برجال؛ وصدق الإمام [عليّ] كرّم الله وجهه إذ قال في حق هؤلاء: [يا أشبه بالرّجال وليسوا برجال؛ دعَوناكم في الصّيف قلتم الحرّ؛ دعوناكم في الشتاء قلتم القر]. اُنظر كتاب: [نهج البلاغة].. فالرجولة الحقة، والإيمان الصادق، يظهران في موقفين اثنين لا ثالث لهما: المال الذي لا يحرسه رجال؛ والفروج المستباحة التي ليس عليها أقفال؛ وما أكثر هؤلاء بيننا.. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أثناء الهجرة، يسير في الصحراء نحو المدينة؛ فأرسل المشركون مشركًا يتعقّبه، ويدعى [سُراقة]؛ فكان كلّما اقترب من النبي الكريم، غاصت حوافر فرسِه في الرّمال، وحدث ذلك ثلاث مرات؛ لكنّ [سُراقة] آمن في دواخله بالنبي الكريم؛ فتبعه؛ فوقف رسول الله ينتظره، ولم تغرق حوافرُ جوادِه هذه المرّة.. فلمّا اقترب من رسول الله، قال له النبي: [يا سُراقة، ماذا تقول بسوار (كِسْرى) إنْ وعدتُك به؟]؛ قال [سُراقة]: [أشهد أنْ لا إلاه إلا الله، وأشهد أنّك رسول الله].. وفي معركة [القادسية]، هزم المسلمون [الفرس]، ودخلوا قَصر (كسرى) فعثر (سُراقة) على سواره؛ فرفعه وهو يقول: [صدق رسول الله؛ صدق رسول الله].. فلمّا حُمِلت الجمالُ والنّياقُ بما غنمه المسلمون لنقْله إلى (المدينة) بقوائمَ دقيقة ومفصّلة إلى [عمر] رضي الله عنه، أحصى وعدّ تلك الغنائم فوجدها مطابقة لما في القوائم، فبكى قائلا: [والله ما نقصت إبرةٌ؛ فكيف لا ينصر الله هؤلاء!].. فأخذ [عمر] سوار (كسرى) وأعطاه [سُراقة] قائلا: [هذا لك؛ فقد وعدك رسولُ الله به]، فأجاب: [صدق رسول الله؛ ولكنّ بيتَ مال المسلمين أولى به منّي]؛ وكان [سُراقة] فقيرًا؛ ومع ذلك.. قصة نسوقها لسُرّاق مال الأمة.
صاحب المقال : فارس محمد