لم يطرح التناوب التوافقي منفصلا عن سياق الظروف العالمية والجهوية التي عاشها المغرب، من هبوب رياح التغيير على المعسكر الشرقي سابقا، ومن ندرة للموارد داخليا، كما أن ولادته لم تكن دفعة واحدة، بل كانت "ولادة قيصرية" سبقتها مراحل من المخاضات العسيرة، والمشاورات والمفاوضات المعلنة وغير المعلنة.
ففي سنة 1995 توجه الملك الراحل الحسن الثاني بطلب إلى مؤسسة محايدة لتشخيص الوضع المغربي اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، فكان تقرير البنك الدولي كارثيا بالأرقام وبالمراتب التي يحتلها أحيانا المغرب دون دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ ومعلنا عن قرب موعد "السكتة القلبية"؛ وعليه أعلن في خطاب العرش بتاريخ 03 مارس 1998 أنه يمكن لجميع القوى الحية وبدون استثناء "أن تتنافس بكل أهلية وجدارة في مجال استحقاق التناوب السياسي".
ولكن السؤال المطروح هو ماذا حدث في "مفاوضات الكواليس"؟.
إن دراسة متأنية في نتائج اقتراع 14 نوفمبر 1997 لانتخاب أعضاء مجلس النواب تعطينا دلالة صارخة على كون النتائج كان متحكما ومتفقا عليها مسبقا في إطار "كوطا" تجعل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على رأس القائمة بـ57 نائبا، متبوعا بالاتحاد الدستوري بـ50 صوتا. ولهذا الترتيب دلالته الرمزية، فالسلطة ساوت بين حزب وطني وحزب إداري، فلا فرق بينهما إلا 7 أصوات، أما حزب الاستقلال فتقهقر إلى المرتبة الخامسة بـ32 صوتا كضريبة على موقفه المتصلب من وزارة ووزير الداخلية - (إدريس البصري)- وهو ما صرح به مرارا السيد امحمد بوستة قائلا: "أنا لا أطيق الجلوس مع البصري".
وكدليل على كون هذه النتائج كانت "مطبوخة"، قدم اثنان من الفائزين في الانتخابات البرلمانية عن حزب الاتحاد الاشتراكي ق .ش. استقالتهما، وهما محمد أديب ومحمد حفيظ، ورفضا أن يكونا برلمانيين مزورين. وسلك الاتحاد الاشتراكي ق ش في موقفه من النتائج اتجاهين مختلفين، ولكنهما يؤديان إلى هدف واحد.
الاتجاه الأول: التعبير عن عدم الرضى عما شاب الانتخابات من سلبيات، إذ في 15 نونبر 1997 صدر مقال رئيسي بجريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان "نفس المفسدين، نفس العقليات، نفس الحياد". وفي 22 نونبر أدلى نائب الكاتب الأول السيد محمد اليازغي لجريدة الشرق الأوسط بحديث جاء فيه عن سؤال حول "الحزب السري": "نعم مازال قائما، ولكن بصيغ أخرى، وليس بنفس الصيغة التي كان عليها سابقا"..
الاتجاه الثاني: هو كون الجريدة تنشر في نفس الصفحة الأولى تهاني الأحزاب والشخصيات السياسية بفوز الاتحاد الاشتراكي بالرتبة الأولى".
وبناء على نتائج الانتخابات عين الملك السيد عبد الرحمن اليوسفي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، وزيرا أولا وكلفه بتشكيل الحكومة استنادا إلى الفصل 24 من دستور96.
وأمام اندهاش النخبة السياسية وتخوفات الأوساط المخزنية من هذا التعيين، كان عبد الرحمن اليوسفي صرح بتاريخ 17 فبراير 1997 لجريدة الاتحاد الاشتراكي: "قلنا إننا أمام إمكانيات تناوب توافقي كمرحلة نحو التناوب الحقيقي، وبالتالي فهذه حكومة مرحلية أو انتقالية فقط؛ قد تكون المشاركة فيها وسيلة لإنجاز الإصلاحات الضرورية".
ولكن تصاعد الأصوات داخل حزب الوزير الأول، وبالخصوص تيار أصبح يعرف بـ"تيار عدم المشاركة"؛ دفع الكاتب العام عبد الرحمن اليوسفي إلى اعتبار "الظروف المثيرة والمقلقة التي يعيشها رأينا العام...تدفع العديد من المناضلين إلى الاستنجاد بفكر عبد الرحيم بوعبيد، باجتهاد عبد الرحيم بوعبيد، بوصية عبد الرحيم بوعبيد؛ وذلك ليستنيروا بكل ذلك كمرجعية في التحليل، كأسلوب في العمل، كنموذج في الشجاعة السياسية وكمدرسة في الأخلاق والنزاهة والسلوك".
وليعزز نائب الكاتب العام مواقف الوزير الأول، وبالتالي موقف الحزب من المشاركة قال إنه "يستحيل على حزب كحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يبقى متفرجا على الأوضاع، ويترك البلاد تتجه نحو الانزلاق الاقتصادي والاجتماعي وتسلط واستغلال المستغلين والمحظوظين...".
وإذا كانت هذه مواقف الحزب الذي شكل الحكومة في إطار تناوب توافقي مع أحزاب أخرى بالرغم من اعتراض قواعده، فإن الحسن الثاني وأثناء استقباله لأعضاء الحكومة الجديدة بتاريخ 14 مارس 1998، اعتبر ذلك يوما تاريخيا طالما بحث عنه، لفكرة التناوب التوافقي في إطار حكومة ائتلافية من أحزاب لا يجمعها أي تصور إيديولوجي أو فكري، لهذا حثهم الملك على ضرورة الانسجام والتضامن رغم المشارب السياسية المختلفة.
وإذا كانت المعارضة وبكل شجاعة تحملت تركة وأوزار الحكومات السابقة، فإن السيد أحمد رضا اجديرة، مستشار الملك، والذي حاربها لعهود خلت، انتقد الدخول الحكومي لها مصرحا: "...ولازلت أقول في نفسي، فلو كانت هذه المعارضة يقظة ومتفطنة لولجت الحكم منذ سنين، وخصوصا الاشتراكيون الذين بفضل اليقظة المتأخرة لزعيمهم "عبد الرحمن اليوسفي" دخلوا إلى الحكومة بعد أربعين سنة من المعارضة الجافة، لنهج تجربتهم بعد انسلاخهم من الإيديولوجية الماركسية واتباع توجيهات العاهل المغربي الليبرالية".
إن الخطابات حول التناوب لم تصرح عن الأهداف غير المعلنة أو الأهداف البعيدة والمرجوة والمطلوبة من التناوب؛ والتي على رأسها حرص الملك الراحل الحسن الثاني على ضرورة الانتقال الهادئ والسلس للعرش منه إلى الملك المنتظر محمد السادس؛ عبر حكومة تحظى بالشرعية "الشعبية" وبالإجماع الوطني وبالقبول داخليا وخارجيا؛ وهو ما تم قبل أن يلبي الحسن الثاني نداء ربه في 29 ماي 1999؛ تاركا لخلفه حكومة تشكل درعا قويا بالداخل أمام أي انزلاقات محتملة، وواجهة ديمقراطية بالخارج.
وعليه تكون الملكية بعبقرية هذا الملك قد كسبت رهانين تاريخيين:
الأول: شرعية ديمقراطية حداثية إضافية.
ثانيا: استمرارية في الزمان بنفس جديد.
ولهذا كتب جون بيير توكوا أن "الحسن الثاني شرعن الملكية عبر التناوب السياسي".
أما مستشار الملك الراحل الحسن الثاني الدكتور محمد معتصم فقدم مقاربة ملكية للتناوب باعتباره مسارا يخضع للتدرج ويحتاج إلى تحضير وإلى ممارسة لكي يرسخ في الثقافة السياسية للمجتمع. ومن بين أسس التناوب الإصلاح التدريجي والتنازلات المتبادلة، ونوع من الوسيطة في تدبير الشؤون، فالتراضي على أسس النظام يحد في الحقيقة من مدى التناوب حتى لا يدفع إلى إحداث تحولات جوهرية في النظام السياسي تفقده معالمه وسماته؛ فلا وجود لتناوب غير محدود، التناوب دائما محدود بثوابت النظام السياسي، لكل نظام سياسي ثوابته، وإذا تحول التناوب إلى تناوب مفتوح كلية فإنه يصبح "بديلا" «Alternative» وليس "تناوبا" «Alternance».
ومن تحصيل الحاصل أن نقول بتوافق نظرة المستشار والملك؛ ذلك أن التدرج في منح الديمقراطية للأمة كان منهج الحسن الثاني؛ احتسابا لأي انزلاق أو تهور في استعمالها من طرف أعداء الديمقراطية.
*أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بكلية الحقوق – جامعة الحسن الأول بسطات
عضو سابق بمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية –