المال حلّل كلَّ محرَّم، حتى بَيْع الوطنية بالدولار؛ سحَر القلوب، فرُبّ قلبٍ من سِحر المال، استحال حجرًا من الأحجار؛ وسياسيٌ به استأسد وطغى، وبه صار من طغمة الزعماء الكبار؛ وتخوّض في أموال الأمّة وفقرائها، وتعلّل بالدّين والسياسة؛ قلتُ كذبتَ، فما كانت السياسة مبرّرا، ولا دين الله بالجزّار؛ فلا الزنا ولا الخمر إن قيسا بعبادة المال ربّا، فلا أشدَّ منها من عار؛ رميتَ بالفقراء، ومنعتَهم أرزاقَهم، وجعلتَ الأمّةَ في عبودية لَكِ وإسار؛ حوّلتَ المواطنين بمالِكَ عبيدًا، واستغنيتَ عن إلاه، غدًا تُكْوى جبهتُك بلهيب الدينار؛ فلا خير فيك، ولا خير في أموالك، مهما كثرت فهي أشبَه بسُحبٍ بلا أمطار؛ حسبتَ مالَكَ رفعَك، فيما هو خفضَك إلى هوّة سحيقة وانحدار؛ فما تقوله غدًا للتاريخ، وبماذا تجيب عن أسئلة الواحد القهّار؛ مالُكَ مذمَّم بلا شك، وسياستُك ذُلٌّ ومهانة، وجزاؤُك بالتأكيد زمهرير، وأبدية في النار؛ فلا منصبك أخلدَكَ، ولا مالكَ أنقذَك، وقد تُحشَر في زمرة ظَلَمةٍ وفُجّار؛ سلكتَ في أمّة وفي أهلها مسالك سماسرة وتجار..
فإذا كان المال بيد عقول متخلّفة، فإن الأمّة لا محالة ستبقى إلى الأبد متخلّفة؛ لهذه الأسباب، تجد الأنبياءَ، والفلاسفة، يحذّرون من ارتباط المال بالسياسة في أمّة من الأمم؛ وهذه هي مشكلتُنا في المغرب؛ فالسياسة المعْوجّة مكّنتْ متخلفين عقليًا من جمْع الأموال، حتى صاروا، هم المتحكّمين في الحال، فأقاموا أحزابًا ترأّسوها، لإخفاء حقيقتهم، وتأنّقوا بوشاح الوطنية الكاذبة، فما رأيناهم حلّوا مشكلةً، ولا أطعموا فقيرا، ولا أنصفوا أجيرًا؛ فتجد الواحدَ منهم، في الظاهر وزيرًا، وفي الخفاء سمسارًا ومضارِبًا، ومحتكِرًا، وتاجرًا؛ وصار المواطنون بالنسبة إليه مجرد زبائن، يبيعهم موادَّ بأبهظ الأثمان، ولا أدلّ على ذلك، ما يعانيه الشعب مع محروقات، ومع (بوطات) انخفضت أثمانُها في العالم بأسره، وارتفعت في المغرب، وكأن هذا المغرب لا يوجد من بين دول هذا العالم؛ وكلّما سألتَ عن مادة قيل لك: هذه محروقات الوزير (فلان)؛ وهذه أحذية الوزير (فلتان)، وهذه مطبعة في ملكية الزّعيم (علاّن) وقسْ على ذلك، من وزراء، هم من أصحاب البيع والشراء..
قد يقول القارئ الكريم: لقد ذكرتَ الأنبياءَ في هذا الموضوع؛ فهل لك دليل؟ الجواب: نعم! سنتّخذ كنموذج إمامَهم (محمد) عليه الصلاة والسلام: فهل حدثَ ولو مرة واحدة أن كلّف النبيُ الكريم صحابيا غنيا بمهامّ أو أرسله كمبعوث؟ أبدًا! لم يحدث؛ فلمّا أراد أن يبعث برجل يفقّه الناسَ بأمور الدّين في اليمن، فلم يبعث [عثمانَ، أو عبد الرحمان بن عوف]، وهما من أثرياء المدينة؛ بل كلّف [حذيفة بن اليمان] بذلك؛ مع العلم أن [عثمان] رضي الله عنه، خدم المسلمين بماله، حيث أنقذَهم من العطش بحفره [بئرَ معونة]؛ كما جهّز بمفرده [جيش العُسْرة] في سنوات العسرة، والجفاف، والضائقة المالية؛ فلم يكنْ في ذلك الجيش لا فرسٌ عرجاء، ولا قلوصٌ (أي إبل) جرباء.. ولـمّا تولّى الخلافة، كانت حاشية [عثمان] هي السبب في مقتله، إذ تخوّضتْ في مال الأمّة بما لا يرضي الله، وبخست المسلمين حقوقَهم، ومنعت المتقاعدين كتّاب الوحي [عبد الله بن مسعود، وأُبَي بن كعب] وآخرين تقاعدهم؛ وانتقصتْ من أعطيات زوجات رسول الله، واحتكرت الأسواقَ، والأراضي لصالحها؛ وهو تماما ما يحدث في مغرب اليوم، حتى وقعت الفتنة الكبرى.
وماذا عن الخلفاء؛ هل هناك مثالٌ يحتذى؟ نعم! هناك: [عمرُ بن عبد العزيز] الذي في عامين فقط، أصلح البلاد، وأسعد العباد، وعالج إرهابَ (الخوارج) بالحوار؛ ومنع الترف، والسرف، والفساد، ومنع المسؤولين من الجمع بين راتبين؛ ومنع الوزراء والولاة من الاشتغال بالتجارة، إذ قال لهم: [لا تتّجروا وأنتم ولاة؛ فإن الوزير إذا اشتغل بالتجارة استأثر، وأصاب ظلمًا، وإن حرص ألاّ يفعل.. دعوا الناسَ يتّجرون بأموالهم في البرّ والبحر، ولا تَحولوا بين عباد الله ومعايِشهم..].. قد يسأل القارئ الكريم، وماذا قاله الفلاسفة في شأن أصحاب الأموال؟ سنأخذ كنموذج فيلسوفًا ألمانيا اسمه [نيتشه] قال: [إنه لـمِن علامة انحطاط الأمة، أن يكون رجلُ المال موضِعَ هذا التقديس، والتعظيم، والحسد؛ كما أن أفراد هذه الطبقة من رجال المال، عبيد أيضا لمالهم؛ فهم عبيدُ المال، وضحايا الأعمال، وليس لديهم الوقت والعقل ليروا مصالح الأمّة العامة؛ والتفكير في غير المال عندهم حرام، كما أن متعة العقل، ولذة التفكير، فوق متناولهم، ووراء بلوغهم؛ وهذا هو السبب في ضَجرهم، وبحْثهم المتواصل عن المال.. إنّ منازلهم الفخمة، ليست بيوتًا، وبذْخهم بلا ذوق، وترفهُم بلا طَعْم، ومُتْعتهم الشهوانية تهبط بعقولهم، ولا تنعشها.. إنهم يجنون هذا المال، فلا يزيدهم إلا فقرا.. اُنظر إليهم كيف يكبّلون أنفسَهم بقيود المال، وكيف يتسابقون سباقا عنيدا على المكاسب..].
فارس محمد