في يوم [06 مارس 1993] دعتْني جريدةٌ كنت أكتب فيها مقالات في الصفحة الأولى، لأتعرف على إخواني في هيئة التحرير؛ فلبّيتُ الدعوة شاكرًا؛ وفي قاعة التحرير كان صحفي وهو صديق قديم يحرر مقالةً لنشرها يوم [08 مارس]، وهو اليوم العالمي للمرأة؛ فكانت الصحفيات تمازحنه وتقولنّ له: [إياك أن تكتب مقالةً رِجْعية أو متزمّتة ضد المرأة]؛ فأجابهن: [الرجال قوّامون على النساء]؛ ثم التفتَ إليّ وسألني: [أليس كذلك اَلـسّي فارس؟].. قلتُ: [لكنك لم تكمّل الآية؛ حيث ذكرتَ منها الشطر الذي يدعّم وجهة نظرك، وأهملتَ الشطر الثاني الذي يشرح معنى القِوامة].. قال: [كيف ذلك؟]؛ والكل كان ينصت باهتمام؛ قلتُ: [يقول عزّ وجلّ: (الرجال قوّامون على النساء بما أنفقوا]، فالعامل المادي هنا عامل حاسم بلا شكّ؛ فأيّة قِوامة بقيتْ لك لو كنتَ مثلا عاطلا بلا دخل، وكانت زوجتُك طبيبة أو مهندسة أو غنية تنفق عليك، وعلى أولادك، وعلى الأسرة بأسرها؟ فأنت بقيتْ لك الذكورة لا القِوامة؛ والذكورة مشتركة بين البشر والحيوانات، ولا تمثّل قوامةً بأي معنًى من المعاني]. فأثار ذلك موجة من الضحك والمزاج ونصحناه أن يأخذ في اعتباره هذا المعطى وهو يصوغ مقالته..
هذا هو الخطأ الذي يسقط فيه أهل النقل، وأعداءُ العقل؛ لهذا تراهم يكفّرون أصحابَ العقل والمنطق، ويرفعون شعار: [مَن تمنطق، تزندق] والله عزّ وجلّ يقول عبر استفهام (إثباتي): [أفلا تعقلون]؛ فكيف يكون العقل زندقة، وعلى من تضحكون يا هؤلاء؛ فكفاكم كذبا وتضليلا؛ بل كفاكم ما جنيتموه على العقول، وعلى الأمّة بأسرها، وقد ضِقْنا ذَرعًا بكم، وبترّهاتكم، أفلا تنتهون إن كنتم صادقين؟ والله عزّ وجلّ، خلق الرجل والمرأة من نفس واحدة، حتى لإنه ساوى بينهما في العقاب إذ يذكرهما الله عزّ وجلّ فتسبق المرأة؛ إلا في السرقة أو الغش، حيث يقول سبحانه وتعالى: [والسارق والسارقة]، فتكون الأولوية للرجل، فيذكره الله أولا قبل المرأة؛ ولهذا فالغش عُرف به الرجل؛ وفي مهنة [لعدُول] ستكون المرأة أقل غشّا من الرجل بشهادة الله عزّ وجلّ، ثم في حديث مكذوب أن النبي الكريم قال إن أكثر أهل النار النساء؛ فلماذا سيُعَذّب الله تعالى النساء، وقد خلقهنّ ناقصات عقل؟ هل هذا معقول؛ وهل يجوز ذلك في عدله سبحانه وتعالى؟ الجواب: كلاّ! فهذه أحاديث مكذوبة تصادم القرآن الكريم، وجب القذف بها في النار..
للمرأة تأثيرٌ في أعمال الرجل، مهما يكنْ نوعُها، وفي أي عصر كان، وأية أمّة كانت، وإن اختلف مقدارُ ذلك التأثير باختلاف عادات الأمم وآدابها.. فإذا كانت الدولة مَلَكية، كان للمرأة شأنٌ كبير في سياستها، وبالرغم من أن هناك أقوالا كثيرة في النهي عن مشورة النساء، ومع ذلك فقد أثّرت المرأة في سياسة الدولة تأثيرًا عظيما.. ففي العصر العباسي، حتى في صدر الدولة، كانوا يصغون إلى النساء، فأحرزت المرأة نفوذًا كبيرا، وخصوصا أمّهات الخلفاء، وأول من استبدّ منهن [الخيزران] أم [الهادي والرّشيد]، وهي قرشية، وكانت ذات قوة، ونفوذ، يخافها أولادُها، ومَن خالفها منهم أو اعترضها قتلتْه؛ وكانت في أيام زوجها [المهدي] صاحبة الأمر والنهي، وهو ما لم تبلغْه [إيزابيلاّ] في [إسبانيا] أو [إيليزابيت الأولى] في (بريطانيا) أو [كاترينا] في (روسيا)؛ وما أظن أن هؤلاء الذين ثاروا بعد السماح للمرأة بممارسة مهنة (لَعْدول) كانوا سيكونون في مأمن، لو كانوا قد اعترضوا في زمن [الخَيْزَران]، ولكن لحُسْن حظّهم، أنهم في زمن جلالة الملك [محمد السادس] نصره الله. لـمّا بلغها أن [الهادي] يريد خلْع أخيه [الرشيد]، والبيعة لابنه [جعفر]، أمرت [الخيزران] بعضَ جواريها بقتله بالغَمّ، والجلوس على وجهه، فقتلنه؛ اُنظر [تاريخ ابن الأثير]؛ صفحة (41)؛ جزء (6)..
كان [ابن رشد] هو شارح فلسفة [أرسطو]؛ وقد تأثّر به كثيرا، لكنّه لم يأخذ برأيه في المرأة، وكان [أرسطو] يرى أن المرأة [رجل غير كامل]؛ بل أخذ [ابن رشد] برأي [أفلاطون] الذي كان يعتقد أنه يجوز للنساء أن تصل إلى طبقة الحكّام كالرجال؛ ذاك أنه على الحكام أن يحكموا المدينة بعقولهم، والنساء يتمتّعن بالقوى العقلية ذاتها التي يتمتع بها الرجال، وهو موقف قبلتْه الكنيسة لأن السيد [المسيح] نفسه لم يكن عدوّا للمرأة.. ثم إن لـ[ابن رشد] قولاً قال فيه: [إن حالتنا الاجتماعية لا تؤهّلنا لإحاطة بكل ما يعود علينا من منافع المرأة؛ فهي في الظاهر صالحة للحمل والحضانة فقط، وما ذلك إلا لأن حال العبودية التي أنشأنا عليها نساءَنا، أتلفتْ مواهبَها العظمى، وقضت على اقتدارها العقلي]. لكن هؤلاء، يتسلحون بالدفاع عن الدّين في محاربة العقل؛ والجُهّال، وأهل الضّلال، والفتن كعادتهم يشفون غليلهم، ويثلجون صدورهم المتّقدة بنار الغيظ، والحسد، باسم الدين، والشريعة، وهي منهم بريئة؛ وهكذا عُوقب [ابن رشد] وأصحابُه بالنفي بعد التّعذير، والتعنيف، وكان وراء ذلك أصحابُ الضّلال باسم الدّين، وهم موجودون في كل عصر، وهم الذين يحرصون على [تراث] موبوء، ومنه يستخرجون فتاواهم، وترّهاتهم، ويحكُمون على الأمّة بتأبيد جهلها، وتخلُّفها..