((كن مختلفا وقل الحقيقة))
شارل بودلير
في كثير من الأحيان، أطرح سؤالا حول كيف يجب أن يتصرف أو يفكر السياسي؟ هل مهمته هي تبرير كل شيء والدفاع عن كل شيء من أجل كسب رضا وهمي؟ أم هو ذلك الجالس في قاعة الانتظار لحرق ذاته وطاقاته ليوهم نفسه أنه يقنع الجميع ربما يجازونه بموقع أو منصب؟ أم ذلك الذي يضحي بذاته من أجل نزاهة فكرية فينعتونه تارة بالمشاكس وتارة أخرى بالفوضوي وغيرها من كلمات يتقيؤها قاموس اللغة؟ غريب هذا الزمن، النزاهة أصبحت تضحية.
الحقيقة أنه عندما تبدي برأيك، فإنك فقط تفكر بصوت عال لأن أصحاب المصلحة يعانون الصمم، ورغم أن الكثيرون لا يحبون ذلك، إما دفاعا عن مواقفهم، أو حماية لمصالحهم، فإنني ما زلت أعتقد أن السياسي الحقيقي هو ذلك الذي يدلي برأيه، ولا يهمه ماذا سيقول الآخرون، أو كيف سيهاجمونه، ما دام يرى المصلحة فيما يقوله ويفعله، فالوطن ومصير الوطن لا يختزل في فكر شخص واحد، أو جهاز واحد، أو حتى حزب واحد، أو جماعة واحدة، بل الوطن مسؤولية الجميع وحق للجميع.
قد نغير المواقع، بل حتى المواقف، غير أن كل ذلك يصب في شيء اسمه مصلحة الوطن كما يعتقدها المعني بالأمر، وهذه المصلحة ليست لها دلالة واحدة، بل تكون لها في بعض الأحيان دلالات مختلفة، وأحيانا أخرى متناقضة، وهذا الاختلاف والتناقض هو الذي في حقيقته كنه مصلحة الوطن، لأن كل شيء نسبي وكل شيء مرحلي.
إن خلق الاتهامات والاتهامات المضادة، والمواجهات التي تنبني على سوء نية، هو مضيعة لكثير من الوقت ومن الجهد، وإساءة لجميع الأطراف، فمن حق كل مغربي مادام يتمتع بهذه الجنسية، أن تكون له رؤية مختلفة وموقف مختلف وأن يصدح بهما، وكل ذلك يتسع له صدر هذا الوطن، وهذه القدرة في استيعاب الاختلاف هي التي ضمنت له الاستمرارية منذ الأزل.
فالسياسي النزيه في رأيي هو الذي له الجرأة على قول الحقيقة كما يعتقدها، رغم أنها تبدو عنيفة في بعض الأحيان، أو قاسية في جلها، لأن أكبر عدو لحسن تدبير البلد هي المجاملات الفارهة، والخطابات المستندة على الأهداف الوصولية والسكوت عن الواقع، فالصمت في كثير من الأحيان بعنفه قد يصم الأذان.
فأن نكون مختلفين، ليس مانعا أن تجمعنا العلاقات الإنسانية، و تفرقنا في قناعاتنا السياسية لا يتعارض مع أن يلمنا الوطن، وفي ذلك نجح الآخرون وطوروا بلدانهم، أما النفاق والمجاملات وإخفاء الحقائق، فهي خيانة اتجاه الأصدقاء، و إهانة للأعداء الذين يبحثون معك على معارك واضحة، ويخوضون في وجهك مواجهات فكرية دون الطعن من الخلف.
إن السياسي لا يمكن أن يحاسبه أحد إلا تاريخه، لأن الشعوب قد تنسى، ولكن التاريخ يسجل كل شيء، فتبديل المواقع أو تغيير المواقف ليس إهانة لأحد، بل هي من طبيعة البشر ومن شكل تطوره وتركيبة تفكيره، ولا أحد يمكن أن يمتلك تلك العذرية الفكرية أو النقاء السياسي.
قد توصلنا الأخطاء إلى مواقعنا، ويوصلنا العجز عن التقييم الموضوعي إلى انفلات بعض من تصرفاتنا، ولكن حينما تكون الحقيقة ساطعة مثل الشمس، فمن العيب أن نحاول استغفال الناس وشتم ذكاء الآخرين، لأن هذا الوطن يستحق منا شيء بسيط جدا، وهو النزاهة في قول ما نعتقده الحقيقة.