بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أكاد أجزمُ وأقولُ أنه رجلٌ حازَ على حبِ الجميع، واستحوذ على رضا الكل، ونال الدرجاتِ العُلى في الحظوة والمكانة، وتميز في القدر والمنزلة، وحصل على إجماعٍ نادرٍ في المحبة والرضا، وكأنَّ الله عز وجل قد أحبه فحبَّب فيه عباده، إذ ما عرفه إنسانٌ إلا وأحبه، ولا عاشره شخصٌ إلا وتوافق معه، ولا التقاه فلسطينيٌ إلا وتوسم الخير فيه، وتمنى لو أن كل القادة مثله وجميع المسؤولين يشبهونه أو يتعلمون منه وبه يتأسون.
فقد كان رحمه الله تعالى محل إجماعٍ وموقعٍ ووسطيةٍ، يلتقي عنده الجميع ويتوافق معه الكل، ولا يختلف معه عاقلٌ، ولا يثور عليه إلا جاهلٌ، ولا يغتاظ منه إلا حاقدٌ، ولا يكرهه إلا عدوٌ، ولا يتآمر عليه إلا فاسدٌ، ولا يستبعده إلا غادر، ولا يلتف عليه إلا متآمر، ولا يخاف من صمته إلا خائنٌ، ولا ينقلب عليه إلا خائفٌ من سيف عدله، وقوة حقه وصدق قوله.
تحدى بصمته الصعاب، وانتصر بزهده على كل المغريات، وتفوق بتعففه على كل المفاتن، فما كان يغريه منصبٌ، ولا يلهث وراء موقعٍ، ولا يتزلف إلى مسؤولٍ، ولا يداهن قائداً، ولا يمتدح فاسداً، ولا يرضى بالعوج، ولا يسكت عن الخطأ، ولا يقبل بالظلم، ولا يحب الشهرة ولا يجري وراء الأضواء، ولا تعنيه اللقاءات الصحفية ولا الفلاشات الإعلامية، يجلس حيث تنتهي به المجالس ولا يتقدم الصفوف ولا يتجاوز الجلوس ولا يتخطى الرقاب، ولا يقبل بالمديح ولا يحب الإطراء، ولا تطغيه الكلمات الجميلة وعباراتُ الترحيب المبالغة.
بيته دائماً في كل الأماكن التي سكنها والدول أقام فيها متواضعٌ صغيرٌ وأثاثه بسيطٌ، وسيارته تكاد تكون قديمة، عاديةٌ كالتي يملكها عامة الناس، بسيطة غير مصفحة، قديمةٌ وغير جديدةٍ، يأخذها مرافقوه ويستخدمها مساعدوه، فلا يغضب إن تأخروا، ولا يُستفزُ إن استدعوا له سيارة أجرة لغياب سيارته أو انشغالهم بها، ولا يستنكف أن يركب سيارته وسط مرافقيه محشوراً معهم وبينهم مضغوطاً، فهو في الأساس نحيف الجسم يتسع له كل مكان، ولا يضيق به مقعد، وكان يكره اقتناء السيارات الفارهة، ويتجنب المرسيدس دوماً ما أمكنه، وإلا تكون من الطراز القديم جداً الرخيص الثمن، وكان يدعو إلى التخلص من البهرج الزائف والزينة الفاتنة، ويدعو إلى البساطة في المركب والهيئة.
رحمة الله عليك أخي عماد، فقد والله كنتَ فينا وبيننا الخير كله والصدق كله، ولا أقول بوفاتك أن الخير قد رفع وأن الصدق قد فُقد، ولكني أقول أننا برحيلك خسرنا الكثير وفقدنا العزيز، وبعدك سنبحث بمشقةٍ عمن يشغل مكانك ويحل محلك ويكون مثلك، إذ لا أعتقد أن الزمان يجودُ بسهولةٍ علينا بأشباهك وأمثالك، فأنت من جيل النبوة ومن الرعيل الأول، فأنى أن نجدَ مثلك أو يكون بيننا شبيهك، فرحمة الله عليك أخي عماد أيها العماد.
رجلٌ بمثل هذه الصفات السامية لا تقتله إلا فئةٌ باغيةٌ، إنه كعمارٍ بن ياسر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "تقتله الفئة الباغية"، وقد سبق لجيش العدو أن قصف مكاناً كان فيه في عدوانه على غزة عام 2014 فأصيب بجراحٍ أدت إلى بتر ساقه، ولكنه صبر واحتسب، فهو من تلاميذ شيخٍ كان مقعداً ولكنه أحيا أمةً وقاد شعباً، وقد نذر عمادٌ حياته ليقتل شهيداً كشيخه ومؤسس حركته مقبلاً غير مدبرٍ، ثابتاً على الحق/ ماضياً على الدرب.
هذا رجلٌ ملائكيٌ رباني طاهرٌ شريفٌ إلى الأشراف ينتمي، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتسب، فنسبه يمتد ويصل إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذا فهو عن غيره من الفلسطينيين تميز وعن سواه من العرب والمسلمين اختلف، إذ سما بهذا النسب وطهُر، وشرُف بالقربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطوبى له اليوم وقد لحق بجده واجتمع به مع صحبه الكرام والقادة الشهداء العظام، ولتقر عينه بهذه الرفقة، ولتسعد روحه وهي في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ في كنف المولى سبحانه وتعالى.
إنه المقدسي العلمي الأشرف، الذي حاز على شرف الصفة المقدسية، ونال خصلة الرباط التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أجداده من سكان المدينة المقدسة التي باركها الله وبارك ما حولها وخص أهلها بالبركة والشرف إلى يوم القيامة، فحمل في جيناته الأولى يوم أن خلق صفات المرابطين وأخلاق المقاومين، وشيم الرجال المقاتلين.
هنيئاً للقدس بابنها عماد، وهنيئاً لغزة بمهندسها الهمام الذي آثر المقاومة على أرضها، ولم يتخلَ عن أبنائها وهو ابن العائلة الثرية، وسليل الدوحة النبوية، وابن الأرض المقدسة، وحامل الهوية والجنسية المغربية، إلا أنه كان لغزة مخلصاً وبها متعلقاً، ومن أجلها قضى العمر عاملاً مجاهداً، يهوى الإقامة فيها، ويفرح بالعمل لأجلها، وقد جهد في رفع الحصار عنها، وعمل على التخفيف من آلامها، وكان أول من بارك المصالحة وشجع عليها، إذ أن عينه على الأهل فيها، وقلبه على الوطن، وقد أدرك أن المصالحة الوطنية الجامعة الناجزة هي البوابة وهي الأمل والرجاء، وبدونها فإن الوطن في خطر، والشعب إلى ضياعٍ ومزيدٍ من الفقر والشقاء.
شفافية عماد وصفاء نفسه، وعفافه وزهده، وتجرده وصدقه مع الله، جعلته شفافاً في كل شئ، صادقاً مع كل الناس، يقول الحق ولو على نفسه، ويفصل القول ولو على حسابه، فما يراه حقاً يؤيده بكل ما أوتي من قوةٍ، ويدافع عنه ويضحي في سيبله، وما يراه باطلاً يصده ويهاجمه، ويفضحه ويعريه ولو كلفه ذلك خسارةً ماديةً، أو حرماناً من منصبٍ أو تخلياً عن مكسبٍ، أو فقداناً لامتيازٍ، ولهذا فقد كانت له في صفوف الحركة الداخلية، وفي الوطن عموماً مواقف صريحة ووقفاتٍ صادقةً، أثبتت أنه رجلُ المبادئ والقيم، وأنه الحريص على المفاهيم والثوابت، إذ كانت عينه على وحدة الوطن جغرافياً، وعدم تقسيمه سياسياً، وكان يرفض الانقسام ويحاربه، ويدعو إلى الوحدة وييسر سبل الوصول إليها.
كثيرةٌ هي القصص والحكايا التي أحفظها عن عماد، وقد عشت معه ردحاً من الزمن، تارةً في المعتقل، وحيناً حراً في قطاع غزة، وتارةً أخرى في الزنازين وفي أروقة المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وداخل المحكمة العليا الإسرائيلية بالقدس المحتلة، ثم خلال رحلة الإبعاد الطويلة، وآخرها كانت حتى عودته إلى مسقط رأسه في غزة، وقد التقيته خلالها وعرفت أنه نفسه الأخ الكبير الذي لم تبدله السنون ولم تغيره الحوادث.
سأحاول رواية ما استطعت ونقل ما تمكنت من قصص وحوادث ومشاهد، وهي كلها مواقفٌ وعبرٌ، ودروسٌ وحِكَمٌ، بدءاً من ذكريات السجن والمعتقل، ومروراً بغزة في ظل الاحتلال وأثناء الانتفاضة الأولى وصولاً إلى الإبعاد والغربة والشتات، فقد كان رحمه الله في كل مرحلةٍ أستاذاً يعلم، وأخاً كبيراً يحنو ويوجه، وقائداً كبيراً يصدق ويخلص، نتعلم من صمته الصعب، ونزداد خبرةً من كلماته القليلة، ويزداد يقيننا من رؤيته الثاقبة وإيمانه الذي لا يضعف، وقد كانت دوماً عينه على الوطن، وقلبه على الشعب، واهتمامه بالمقاومة، وتركيزه على العدو، ويقينه بعمق فلسطين العربي والإسلامي لا يضعف ولا يهتز.
يتبع ....