سوف نتحدث عن ماهيَتَي التربية والتعليم؛ فما هي التربية وما هو التعليم، قبل أن نبحث إن كنا موجوديْن في منظومتنا التربوية البائسة.. فما هي التربية يا ترى؟ وماذا قال عنها علماء التربية؟ وكيف عرّفوها؟ التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله؛ أو هي كما يقول الـمُحدَثون تنمية الوظائف النفسية بالتمرين حتى تبلغ كمالَها شيئا فشيئا؛ تقول: ربّيتُ الولدَ، إذا قوّيتُ ملكاتِه، ونمّيتُ قدراتِه، وهذّبتُ سلوكَه، حتى يصبح صالحا للحياة في بيئته.. يقول الفيلسوف الألماني [إيمانويل كانط]: [اكتشاف الملكات الكامنة في أعماق الطفل، وتطويرُها، ذاك هو هدف التربية].. ومن شروط التربية الصحيحة، أن تنمّي شخصيةَ الطفل من الناحية الجسمية، والعقلية، والخُلُقية، حتى يصبح قادرا على مؤالفة الطبيعة، يجاوز ذاتَه، ويعمل على إسعاد نفسه، وإسعاد مجتمعه.. وتُعَدّ التربيةُ ظاهرةً اجتماعية تخضع لما تخضع له الظواهرُ الأخرى في نموّها وتطوّرها.. فهل في منظومتنا تربيةٌ بهذا المعنى؟ أشك في ذلك!
وما هو التعليم؟ التعليم [enseignement]، هو التدريس، وهو مقابل للتعلُّم؛ تقول: علّمتُه العلمَ فتعلّم.. ويُشترط في التعليم توفيرُ الشروط التي تسهّل طلبَ العلم على التلميذ داخل المدرسة أو خارجها [كما هو شأن التعليم في هذا البلد؛ فظروف التلاميذ، والمدرّسين، صعبة في الداخل والخارج؛ وسوف تزداد الصعوبات والإحباطات، عندما سيصبح التعليمُ بضاعةً يؤدَّى عنها بفضل (حكْمة) الطبيب النفسي، رئيس الحكومة (العثماني)، حيث سيصبح التلميذ زبونًا لهذا (التعليم البضاعة) ويصبح المدرّس (مرتزقًا) يشتغل بالعقدة مع وزارة، عفوًا مع (مقاولات) التعليم، وهي الأكاديميات الفاشلة.. والتعليم (didactique) أخصُّ من التربية، لأن التربية تشمل نقلَ المعلومات إلى المتعلم، مع العناية بتبديل صفاته، وتهذيب أخلاقه (كما رأينا في بلادنا، حيث تلميذ يرفس أستاذَه داخل الفصل؛ وآخر يهاجم أستاذةً خارج الفصل بسلاحٍ أبيض، ثم نعْمَ التربية).. ومفهوم التعليم، يتضمن مفهوم الحاجة إلى المعلم.. ومذهب التعليم، مذهب باطني، يقوم على ادّعاء الحاجة إلى التعليم والمعلّم، وأنه لا يصلح كلّ معلم، بل لابد من معلّم معصوم، حاضر أو غائب (مثل المدرّس الذي يعطي النقط مقابل الجنس في بلادنا)..
لقد سمّيتُ التعليم في بلادنا [الرجل المريض] الذي وهن عظمُه، وقوّس ظهرُه، ولم يعدْ له من التعليم إلا الوزرة البيضاء، ولم نعد نرى من التلميذ إلا اللباس الموحَّد، وشكّارة ثقيلة قوست العمود الفقري للطفل، لكثرة الكتب التي لا حياة فيها، وبرامج لا حسّ فيها، ومناهج لا ثراء فيها، وشهادات يحصَّل عليها لا قيمة لها، مثلها مثل أوراق نقدية فقدتْ قوّتَها الإبرائية.. قال مفكرٌ روسي: [شَيِّد مدرسة، تقفل سجنًا]. لكنّ مدرستَنا صارت هي المموّنَ الرئيسي للسجون، ولمنظمات الإرهاب، والمكوّن (لجنود المستقبل) كما تسمّيهم المنظماتُ الهدّامة.. فلا هي بنتْ إنسانًا، ولا هي قوّمت اعوجاجا، ولا هي سدّدت سلوكًا، ولا هي ربّت على الوطنية ومحبة الوطن.. كنتُ ذات يوم حارسًا في قاعة امتحان، وكان من بين أسئلة الامتحان: (بماذا تذكِّرُك هذه التواريخ؟)، وكانت تواريخ: المسيرة الخضراء؛ وثورة الملك والشعب؛ وعيد الاستقلال؛ و… و.. فوالله ما أجاب التلاميذ عن هذا السؤال؛ ومن أجابوا هم قلة، ذكروا عيدًا أو عيدين وطنييْن لا غير؛ وهو ما ذكّرني بتعليمات المنظمات الهدّامة، التي توصي بتلقين المتعلّمين كراهية الأوطان، وتنصح في تعاليمها بإلغاء مجانية التربية والتعليم..
وفي أحد المراكز العليا، طُرِح سؤال: [ما هو تاريخ عيد العرش المجيد؟]؛ وقد كنتُ هناك بالصدفة؛ فخرج الطلبةُ وتقدّم نحوي رهطٌ منهم، وسألوني: [ما هو تاريخ عيد العرش يا أستاذ؟]، فأجبتُ: [هو (30) يوليوز]؛ فعضّوا على أصابعهم، حيث منهم من أجاب: (28)؛ وآخر (29)؛ وآخر (31) يوليوز؛ فعرفتُ أنه من الواجب إقامةُ (صلاة الغائب) على [الرجل المريض]، يعني التعليم، وقد انتقل إلى جوار ربّه، ثم [إنا لله وإنّا إليه راجعون].. والآن، يريد الطبيب النفساني، وتلميذ [ابن تيمية] أن يدفنه، فتعذّر عليه إيجاد مصاريف الدفن؛ فأراد إلغاء مجانية التعليم المقدّس، وهو ليس للبيع أو الشراء، وفيه يتساوى الفقراء والأغنياء.. فالأغنياء يدفعون الضرائب المفروضة، وليس من واجبهم دفعُ ثمن لتعليم أبنائهم، لأن التعليم من الثوابت، ومجّانيتُه مضمونة بشرائع السماء وقوانين الأرض؛ وصدق [طه حسين] حين قال: [حقُّ المواطن في التعليم، كحقِّه في الماء والهواء]؛ ولكنّ [الرجل المريض] أراد أن يعالجه طبيبٌ وهو مريض، كما عالج قطاعات أخرى مريضة من مرضى هذا البلد الذي ما أكثر مرضاه، من ذوات، وأدوات، وقطاعات، ومناطق مثل (الحسيمة وجرادة) والبقية آتية لا محالة، وقد حوّل البلادَ من دولة إلى وكالة، وصار وزراؤه أصحاب دكاكين، ومحدِّدي أسعار، وأصبح المغرب أشبهَ بـ(سوبير مارشي) حيث الأغنياء يشترون، والفقراء يلحسون الڤيترينات.. براڤو!