بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
الموت حق وهو نهاية كل مخلوق وخاتمة كل نفسٍ "كل نفسٍ ذائقة الموت"، فإذا جاء أجلها وحان وقتها ترجع الروح إلى بارئها، وتأنس في جوار ربها، يسبقها عملها ويشفع لها صدقها في الدنيا والخير الذي قدمت في حياتها، ولا تتأخر نفسٌ عن موعدها ولو كانت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنك ميتٌ وإنهم ميتون"، فهذه سنة الله عز وجل في خلقه، يموتون ويبقى سبحانه وتعالى "كل شئٍ هالكٌ إلا وجه"، فطوبى لمن أحسن العمل في الدنيا وأخلص لله عمله سراً وعلانيةً، وأجهد نفسه في عبادته والتقرب إليه نهاراً وفي جوف الليل، وكان في حياته صادقاً أميناً تقياً ورعاً، لا يؤذي غيره ولا يسيء إلى سواه، ولا يعتدي ولا يظلم، ولا يسرق ولا يكذب، ولا يخون ولا يغدر، ولا يأتي إلا بخيرٍ يحبه الله ورسوله.
بقلوبٍ مؤمنةٍ خاشعةٍ وبرضا نفسٍ وطمأنينة روحٍ نسلمُ بقدر الله سبحانه وتعالى، الذي هو حقٌ وعدلٌ لحكمةٍ اقتضاها ورحمةٍ أنزلها وعلمٍ قديمٍ قد كتبه، إذ اصطفى من بيننا أبا همام عماد خالد العلمي، واختاره ليكون إلى جواره، وليلحق بالسابقين من إخوانه، الذين اصطفاهم الله قبله، حتى جاء يومه المكتوب الذي رحل فيه إليهم مودعاً الدنيا الفانية ليسكن وإياهم جنة الخلد الباقية، التي وعدهم الله عز وجل بها وهيأهم لها، فطوبى لك عماد وأنت اليوم مع إخوانك في جنات الخلد تحبرون، هنأكم الله وأنتم في كنفه، وأسكنكم فسيح جناته، وجعلكم فرطاً لأهلكم تسبقونهم إلى الفردوس الأعلى وتشفعون لهم، وتسألون الله عز وجل أن يرأف بهم وأن يأخذ بأيديهم ويكون معهم، لتقر عيونكم وتطمئن نفوسكم وتهدأ أرواحكم.
لكن القلب يحزن والعين تدمع على فراق أبي همام، وإن كنا قد أستودعناه الله عز وجل الذي سيكون إليه أقرب وبه أكثر رحمةً، إلا أن غيابه فيه لوعةٌ وأسى، وحزنٌ وألمٌ، ودمعةٌ وغصةٌ، وآهةٌ عميقةٌ ووجعٌ كبيرٌ، فهذا رجلٌ عزيزٌ أحببناه، وإنسانٌ شريفٌ عرفناه، ومناضلٌ صادقٌ خبرناه، وأخٌ كبيرٌ عشنا وإياه، ورفيقٌ كريمٌ عهدناه، ولكأنه لا ينتمي إلى عالمنا، ولا ينتسب إلى أجيالنا، فهو إلى الجيل القرآني أقرب، وإلى الجيل الرباني ينتسب، الذين كان خلقهم القرآن، وكأنه إلى عهد النبوة ينتمي، وإلى جيل الصحابة العظام ينتسب، ففيه الكثير من صفات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي زرعها فيهم ونمَّاها عندهم، حتى استحقوا أن يكونوا من المبشرين بالجنة، فلعله يكون منهم وإليهم أقرب، ويدخل الجنة معهم ويسكن في فردوسها الأعلى مثلهم، إذ باع الدنيا واشترى بها الأخرة مثلهم، فاستحق أن يكون مثلهم وأن يبزهم في مقامهم وأن يزاحمهم في مكانتهم.
سأكتب عنك أخي عماد تباعاً وأنت السامي دوماً والمستعلي أبداً، الشريف نسباً والعظيم خلقاً، الهمامُ فعلاً والصادق عملاً، والمتواضع نفساً والطيب قلباً، والأصفى روحاً والأصدق لهجةً، والأنقى سريرةً والأزكى سيرةً، والأرجح عقلاً والأصوبُ حكماً.
عماد العلمي النحيل النحيف، الهزيل الجسد الخفيف الوزن، الذي ما عهد يوماً السمنة ولا اكتسى جسمه باللحم والشحم، ولا شوهد يوماً ممتلئاً ولا رآه الناس أبداً بديناً، بل حافظ طيلة حياته على شكله البسيط الذي عرف به واشتهر، إذ ما كان يأكل إلا القليل، ولا يشتهي من الطعام إلا ما نذر، وكان آخر من يجلس إلى المائدة وأول من يقوم عنها، حتى يكاد مضيفه أن يحصي لقيماته وأن يعد عليه ما أكل، وقد كان هذا دأبه في البيت والعمل، وفي السفر والحضر، وفي السجن والمعتقل.
لكنه كان دوماً أنيقاً في ملبسه، منمقاً في مظهره، نظيف الثوب مسرح الشعر طيب الرائحة، يحرص على ربطة العنق التي لم يتخلَ عنها حتى في يوم اعتقاله الأخير ويوم إبعاده الأول، سريع الخطى إذا مشى، خفيفاً رشيقاً إذا صعد الدرج، يقفز فوق درجات السلالم قفزاً، ويسبق الشباب صعوداً، ولا يشكو من علو الطابق ولا بعد المسافات، ولا يطلب من أحدٍ مساعدةً، ولا يشكو من صعوبة الوصول أو مشقة الطريق.
قليل الكلام خافت الصوت هادئ الحركة، يصغي كثيراً ويتكلم قليلاً، ولا يقاطع محدثه ولا يستفز مخاطبه، ورغم ضعفٍ أصاب إحدى أذنيه في حادثٍ قديمٍ إلا أنه كان لا يشعر محدثه بأي حرجٍ، بل يركز بأذنه الأخرى ويسمع، أو ينتقل بهدوءٍ لتكون أذنه السليمة أقرب إلى محدثه فلا تضيع منه كلمة، وكان يفتح أبواب بيته ومكتبه للشاكين من إخوانه، وللغاضبين منهم والثائرين على الأوضاع، وللباحثين عن نصحٍ من أبناء حركته، يفرد لهم بعض أوقاته ويصغي إليهم باهتمامٍ ولا يصد أحداً منهم، ولا يمتنع عن الاستماع إلى شكواهم ولو كانت مكرورة، ولا يتأخر في رفع المظالم وإزالة المخالفات ونصرة المظلومين.
عرفناه نقي السريرة، صافي القلب، عف اللسان، كريم النفس، حر الرأي، صادق القول، جريء الموقف، صريح العبارة، فصل الخطاب، زاهداً في الدنيا، عفيفاً في مناصبها، لا يأبه لمكسبٍ ولا ينافس طمعاً ولا يزاحم مصلحةً، ولا يقاتل منفعةً، ولا يصادق نفاقاً، ولا يداهن تزلفاً، ولا يقعد عجزاً، ولا يسكت خوفاً، ولا يصمت مؤامرةً، ولا يحابي ظلماً، ولا ينصر ظالماً، ولا يساعد مدعياً، ولا يصادق كاذباً، ولا يبايع خائناً، ولا يفاوض عدواً، ولا يتنازل عن حقٍ ولا يفرط في ثابتٍ، ولا يستغله عابثٌ ولا يضحك عليه متحذلقٌ، بل تراه في المجالس يقظاً، وفي المفاوضات واعياً، وفي الحوارات منتبهاً، دقيق الملاحظة صائب الفكرة، لا تخدعه العبارات، ولا تمر من بين يديه الكلمات، بل يستوقف الكاتب ويعارض الناقد ويعيد صياغة البيان، ويرفض ما اشتبه منه وما خالف، حتى غدا ميزاناً للمواقف وصائغاً كما الذهب للبيانات.
اليوم -أخي عماد- أخط في غيابك هذه الكلمات، وأنظم في شخصك هذه المعاني، وأصفُ فيك كل هذه الصفات والخلال التي هي حقيقة وأبعد ما تكون عن الخيال، وأستذكر معك كل الذكريات القديمة والحكايا الجميلة، في سلسلةِ مقالاتٍ أكشف فيها ما استطعت بعض ما خفي من سيرة حياتك، وأميط اللثام عن بعض صفحات نضالك ومقاومتك، وأسلط الضوء على الكثير مما أعرف، فهذا حقك علينا وواجبنا تجاه عائلتك الكريمة، ليعرفك شعبك في الوطن والشتات وقد كنت أميناً معهم وحريصاً عليهم.
اليوم يا عماد وقد رحلت عن دنيانا وأصبحت في دار الحق ساكناً، وإلى جوار ربك رفيقاً، أكتب عنك صادقاً وأنقل عنك حقاً، وأنت رفيق السجن والإبعاد، وشريكي في القيد والزنزانة، ومرشدي في العمل والحركة، ومثالي في الصدق والطيبة، وفي التواضع والزهد، وقدوتي في التجرد والتوكل، وفي الرضا والقناعة والقبول والتسليم، سأكتبُ يا عمادُ بمدادٍ من الدمعِوالدمِ، ولا أكاد أصدق ما حدث معك أو أستوعب ما وقع لك، فمثلك لا تسكت رصاصةٌ بالخطأ أنفاسه، ولا تضيق روحه بالخطوب ولو ادلهمت، ولا تيأس نفسه لشدة الكروب ولو اجتمعت، فلأنت أقوى بإيمانك من كل المحن، وأشد ثباتاً بصدقك من الجبال الشمم، وأعلى مقاماً وأرفع قدراً من كل القمم.