كثيرا ما تفاديتُ الخوضَ في موضوع [الرجل المريض] في بلادنا، رغم أني أعرف هذا [الرجلَ] حق المعرفة بحكم المهنة، وقد وهبتُ قسطًا وفيرا من حياتي لخدمته تمشّيا مع وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حيث أوصى به خيرا وهو [الرجل] الذي أخذ الأمم من بحر الجهل والأمية، وأوصلها إلى بر العلم وإلى شُطْآن التقدم والتنمية، وجعل من أُناسيها إنسانا بعدما كانوا مجرد بشر (خام) وظيفتُهم الأكل والتناسل، الشيء الذي جعلهم أقرب إلى الحيوان، منهم إلى إنسان ذي كرامة، ورسالة، له عقل ووجدان.. كان الله سبحانه وتعالى يتحدث في كتابه العزيز عن [البشر]: [إذ قال ربُّكَ للملائكة إني خالقٌ بشرًا من طين..] (الآية)، ولم يذكرْ عزّ وجلّ [الإنسان] إلا بعد نزول الكُتب، والقلم، وعيّن الرسل والأنبياء، وتعلّم هذا [البشرُ] القراءةَ، والكتابةَ، وحصل [البيانُ]؛ عندها فقط، بدأ سبحانه وتعالى يذْكر [الإنسان]: [يا أيها الإنسان ما غرَّك بربّك الكريم..] (الآية)؛ وبفضل القلم، والقراءة، والبيان، تحوّل البشرُ الذي خُلق من طين، والطيـنُ هو التراب ممزوج بالماء، ويداس بحوافر الدواب؛ تحوّل هذا البشر إلى إنسان، فحمله الله في البرّ والبحر وأتاه الله عِلما وحُكما، وأورثه الدنيا وما فيها، وكان خليفة الله في مملكة الله..
هذا [الرجل] المريض، الذي تعرّض للإهمال، وصار ألعوبةً بين أيدي أصحاب الصّولة والمال، هو [ميدان التربية والتعليم].. ما كنتُ أودّ الخوضَ في هذا الموضوع، لولا إلحاحُ أحد المفتّشين الذين أطّروني خلال جزء من مسيرتي، حيث اندهش لسكوتي، وكان يعتقد أني لن أسكت، وقد تابع الجريدة عددًا عددًا، فلم يجد لي أيَّ مقال بهذا الخصوص، فألحّ عليّ الكتابة فيه، ومن ذلك هذه المقالةُ المتواضعة.. أنا لست منظّرًا، ولا مفكّرا في هذا الميدان، وإنما كنت جنديا في ساحة القتال، في المعركة ضد الجهل، والأمية خدمةً للإنسان المغربي في هذا البلد الحر الأمين، دون أن أكترث يوما بالقليل الذي أكسبه في هذه المهنة التي يراقب الله سبحانه وتعالى شخصيا أمانةَ وجدّيةَ مَن امتهنها؛ وهنا تكمن خطورتُها، وتتجسّد جسامتُها باعتبارها مهمّة إلاهية: [كاد المعلِّم أن يكون رسولاً] كما قال الشاعر ذات يوم؛ والحديث ذو شجون..
كانت مهنة التدريس من أصعب المهن التي يراد امتهانُها؛ فبعد المباراة الكتابية، تأتي المباراة الشفوية، فتُلقى أسئلةٌ حول قطعة من طرف ثلاثة أساتذة غِلاظ، شِداد؛ وفي الأخير يسألك أحدهم سؤالا محرجا: [لماذا اخترتَ مهنة التدريس دون غيرها؟]؛ فتجيب، وهم يراقبون لغتَك، وطلاقةَ لسانِك ومخارجَ ألفاظك، وقسْ على ذلك؛ ثم انتظرِ النتيجة النهائية.. وخلال التكوين، تُقدّم دروسًا أمام تلاميذ لا تعرفهم، وكاميرا [الڤيديو] تصوّر حصّتَك؛ وفي المساء، يُعرض في قاعةٍ شريطُ (الڤيديو) الخاص بك، يشاهده الأساتذةُ والزملاء، وكان الله في عونك أمام نبال النقد، ورصاص الملاحظات، ثم في غيابك تُمنَح لك النقطة التي تستحقها.. وفي نهاية التكوين، تقدِّم للّجنة بحثَك الذي أنجزتَه، ويكون مطبوعا، في موضوع يتعلق بالتلاميذ، أو بميدان التربية؛ فيناقَش معك في قاعة من طرف لجنة مكوّنة من ثلاثة أساتذة لا تعرفهم، وتُمنَح لك نقطةٌ تضاف إلى بقية نقاط موادّ الامتحان.. كان الموضوع الذي اخترتُه عندما كنت طالبًا أستاذًا، هو: [le professeur électronique] وحاشيَتُه؛ وأعني بذلك جهازَ التلفزة، والڤيديو، وما يُعرض فيهما من صور محرَّمة، ومشاهد عنف، مما سيشكّل تأثيرا على الناشئة، ويحدّد العقلية التي ستكون عليها مستقبلا، إلى جانب إهمال الدروس، وإحالة الكتاب على المعاش، ونفور التلاميذ من القراءة؛ وربما كنتُ صائبا في هذا التوقع؛ ولكن أترك الحكمَ للقراء الكرام.. هكذا كان يتم تكوينُ جندي التربية والتعليم..
نعم؛ في مسيرة المدرّس المهنية، قد تعترضه مشاكلُ، منها مثلا مفاجأتُه لتلميذ يقبّل تلميذةً؛ وهذه أمور قد تحدث، وعلى الأستاذ الحكيم أن يعالجها بمنطق، وحكمة المربّي، دون شَوْشَرة أو فضيحة، كما يفعل التافهون اليوم؛ فهي مسألة تربوية، ويجب حلُّها تربويا، وفي صمت، عن طريق محاورة التلميذين؛ ألم يقلْ [ڤولتير]: [يمكن إصلاحُ الناس عن طريق الكلام والخَطابة]؟ ولكن أيّ كلام، وأية خَطابة، وأي حكيم يعتمدهما؟ أليس الأستاذ رسولا، إلى جانب كونه مربّيا، وفنانا، وفيلسوفا، وعالما نفسيا؛ ليس بالمعنى التقني، ولكنْ بالمعنى المجازي.. لكنْ ماذا تقول في أستاذ يتحرش بالتلميذات؛ وأستاذ يمنح النقط مقابل الجنس؛ وأستاذ يدرّس الفلسفة ويلتحق بجماعة [داعش]؟ هؤلاء، هم الذين بهدلوا مهنةَ التعليم، وأزاحوا عنه رداءَ القدسية؛ فلم يَعُدِ التعليمُ مقدّسا، ولا المدرِّس رسولا وهو ما جرّأ [العثماني] على ميدان التربية، حيث جعله بضاعة مؤدّى عنها، وحوّله أصحابُ المال إلى ميدان استثمار، ناهيك عن قلة الحياء، ومظاهر العنف، والبقية غدًا..