بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أجدُ نفسي مقصراً إن لم أكتب عن الأسيرة الفلسطينية إسراء الجعابيص، ولا أكون كاتباً إن لم أخصها بأكثر من مقالٍ يذكرها بالاسم، ويستعرض حالتها بالفعل، ويسلط الضوء على ظروفها في السجن، ويشرح معاناتها بصدقِ، وينقل صورتها للرأي العام بتجردٍ، ويفرض قضيتها أمام المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان، ويجعل منها موضوعاً للتداول، وأداة للضغط على الكيان الصهيوني، وفضحه أمام الرأي العام والمجتمع الدولي، وبقدر مساهمتي في إثارة قضيتها والتطوع للدفاع عنها، أشعر ببعض الرضا عن نفسي والاطمئنان إلى قلمي، الذي يزيده طهراً الكتابةُ عنها، ويسيل حبرَه بيانُ فضلها وتعدادُ فضائلها وعرضُ خصالها.
إنها إسراء رياض جميل الجعابيص، سيدةٌ فلسطينيةٌ مقدسيةٌ من حي جبل المكبر بمدينة القدس، معتقلةٌ في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ 11/10/2015، مباشرةً بعد انفجار سيارتها الخاصة قرب حاجز الزعيم العسكري الإسرائيلي بالقدس، نتيجةً لخللٍ فنيٍ وماسٍ كهربائي تسبب في اشتعال النار في السيارة واحتراقها، ما أدى إلى إصابتها بحروقٍ خطيرةٍ طالت 65% من جسدها، وأدت إلى تشوهات كبيرة في جسمها، طالت منطقة الإبط واليدين والقدمين والعينين، وفقدت خلال الحادث نتيجة اشتعال السيارة أصابع يديها، ولكن أسوأ ما أصابها ولحق بها، هو الحروق الشديدة التي أصابت الوجه فتغيرت بسببه شكلها، وحمل الوجه آثار الحريق القاسية، التي يصعب عليها أن تتحملها، أو أن تواصل الحياة بدون علاجها والتخلص منها.
اعتقلت سلطات الاحتلال إسراء فور الحادثة مباشرةً رغم حالتها الصحية المتردية، ودرجة الحروق المتقدمة التي أصابت كل أنحاء جسدها، وأخضعتها للمراقبة والحراسة داخل أحد مستشفياتها، إلا أنها لم تمهلها فيه طويلاً، وقبل أن تتماثل للشفاء وتبرأ من جروحها وتندمل آثار الحروق، قامت بنقلها إلى زنازينها في أحد سجونها، وأخضعتها للتحقيق القاسي، واستغلت حالتها الصحية المتردية في الضغط عليها، إلا أنها لم تأخذ بأقوالها، ولم تصدق روايتها، واتهمتها بمحاولة تفجير سيارتها في الحاجز العسكري، وأصدرت حكمها النهائي ضدها بالسجن مدة أحد عشر عاماً.
تشكو إسراء التي تعاني من ظروفٍ السجن القاسية جداً، أنها باتت في حاجةٍ إلى من يخدمها ويساعدها، فقد غدت مشلولةً إذ بترت أصابع يديها، وهي تشعر بالحرج الشديد والدائم نظراً لحاجتها المستمرة إلى من يقوم على خدمتها، وعجزها الكلي عن القيام بحاجاتها الخاصة، ورغم ذلك ترفض سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي عزلتها وحدها لفترةٍ طويلةٍ، إجراء أي عمليةٍ جراحيةٍ لها للتخفيف من آلامها، أو ترميم وجهها وجروحها المتقرحة، فهي تعاني من التصاقاتٍ جلديةٍ، ومن فقدانها لأسنانها التي تكسرت وتهشمت، وتشكو من صعوبةٍ في التنفس، إذ أنها تتنفس من فمها، حيث أن إحدى فتحتي الأنف مغلقة كلياً، بينما الثانية ضيقة جداً ولا تسمح بالشهيق والزفير بسهولةٍ، وتشعر بألمٍ شديدٍ إذا تعرض وجهها للهواء، أو إذا لامس الماء وجهها وعينيها، ولا يتوفر لها أي دواءٍ يخفف من آلامها أو يحول دون حساسية جلدها.
تقبع إسراء الجعابيص التي تعيش حالةً من الموت البطيء، والعذاب الدائم والمعاناة المستمرة، نتيجةً لما تعرض له جسدها من تشوهاتٍ والتصاقاتٍ وفقدانٍ لأصابع اليدين، في سجن هشارون الإسرائيلي، علماً أنها في الثلاثين من عمرها، وهي طالبةٌ جامعية وأمٌ لولدٍ وحيدٍ اسمه المعتصم، وتعيش وعائلتها في حي جبل المكبر بالقدس، وقد حرمتها سلطة مصلحة السجون من رؤية ولدها، في الوقت الذي تشعر فيه بالخوف والقلق من ردة فعله إذا رأى وجهها المشوه وجسدها المحروق، وهي المعروفة بين أقرانها بجمالها، والتي تشهد صورها قبل الحادثة بحسنها وجمال وجهها.
أقف أمام معاناة إسراء الجعابيص صاغراً حزيناً، متألماً متوجعاً، ساهماً عاجزاً، محتاراً قلقاً، ماذا يمكننا أن نفعل لأجلها، وما هو السبيل للتخفيف من آلامها أو التعجيل بإطلاق سراحها، وهي المرأة الضعيفة والأخت الأسيرة، إنها تستحق منا أكثر من وقفةِ تضامنٍ وبيانِ استنكارٍ، ولا يرفع الحرج عنَّا أبداً إن نحن خرجنا نتظاهر من أجلها تضامناً معها، بل يجب تجنيد أكبر قطاعٍ ممكنٍ من النشطاء والفاعلين الفلسطينيين والعرب، إضافةً إلى شخصياتٍ دولية ومؤسساتٍ أممية، وغيرها من مختلف اللجان العاملة في حقول حقوق الإنسان، لنحرك الرأي العام الدولي تضامناً معها، ولندفع بسلطات الاحتلال الإسرائيلي للإفراج عنها، أو إعادة محاكمتها بعد الأخذ بروايتها، إذ أن جنود الحاجز الذين أمطروا سيارتها بالرصاص، بعد أن انفجر بالون الأمان، هم الذين تسببوا في انفجار إسطوانة الغاز التي كانت في السيارة.
قد سبقني إلى الكتابة عن إسراء الكثير ممن يعرفونها عن كثبٍ، أو يجاورونها في الإقامة والسكن، أو يسمعون عنها من بعيدٍ مثلي، وعرفوا بها وتأثروا بمحنتها، وكتبوا عنها أو رووا حكايتها، فقصتها يعجز القلم عن سردها واللسان عن وصفها، ولعل صورها تعبر عنها وشكواها بلسانها تنطق بحالها، وأرى أن الأمة العربية والإسلامية كلها مدانة إن هي تأخرت عن نصرتها، أو تباطأت في الدفاع عنها، أو قصرت في محاولة فك أسرها وإطلاق سراحها، أو على الأقل التسرية عنها والتخفيف من آلامها، ودفع سلطات الاحتلال لعلاجها أو السماح بجهاتٍ طبيةٍ برعايتها ومتابعة حالتها.
لا أعتقد أنني أستطيع أن أفيها حقها إن كتبت عنها، أو سردت قصتها وسلطت الضوء على معاناتها، وإن أجدت في وصفها أو أبدعت في عرض قضيتها، فهي أسمى من أن يحدها قلمي، أو أن تؤطرها كلماتي، أو أن يرفع من قدرها العالي مقالي، بل هي التي تزيدني رفعةً وشرفاً، وترفع من شأني ومقامي، وتجعل من قلمي سيفاً ومن كلماتي قذائف حقٍ، فيصغي السامعون لخطابي إكراماً لها، ويقرأ المتابعون كلماتي وفاءً لها، ويتعرفون علي من خلالها، فاللهَ العظيمَ أسألُ أن ينفعها بما أكتبُ، وأن يفيدها بما أنشر.