لكل واحد من الناس معانٍ في ذهنه وكلامٌ في نفسه يعبر عنه بعبارات مخصوصة بألفاظ مخصوصة، فالمعاني هي الأصل والألفاظ هي التبَع، أو أن المعاني هي الروح والألفاظ هي جسدها، أو أن المعاني هي الغاية والألفاظ هي الوسيلة إليها، أو أن المعاني هي الجوهر والألفاظ هي العرَض، أو أن المعاني هي الحقيقة والألفاظ هي المجاز، أو أن المعاني هي الحمولة، والألفاظ هي الحاملة، أو أن المعاني هي الأهداف والألفاظ هي المؤشرة عليها، أو أن المعاني هي المرادة لذاتها والألفاظ هي المرادة لغيرها، وهذا هو ما يسجل سبق المعاني على الألفاظ.
بين اللفظ والمعنى
تحضُرُنا معانٍ ونحن جلوس مع ثلاثة أشخاص أو أكثر من دول أجنبية، فنعبر لهم عما في أذهاننا بلغاتهم المختلفة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والمعنى الذي في الذهن واحد، فإذا أردناأن نقول لهم "كيف حالكم؟"، فإننا نقول للإنجليزي: "How are you doing?"، وللفرنسي: "Comment allez-vous?"، وللدانمركي "Hvordan Går det med jer?"، والمعنى الحاضر في الذهن واحد. والألفاظ التي عبّرت بها ما هي إلا وسائل إلى ذلك المعنى. وإذا أردنا أن نخاطب الناس بالجلوس،نقول للضيف: تفضَّلْ، ونقول للابن: اجلس، ونقول للطفل الصغير "تّي تّي"، والمعنى المطلوب تبليغه واحد.
فإذا قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا]تجولنا في القرآن الكريم، نجد الله تعالى يقول: أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ، [النَّمْل: 18]، والنملة[سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ لم تتكلم بالعربية قطعا، ومع ذلك قال الله تعالى: "قالت نملة" فتكون هذه الألفاظ مبلغة للمعنى الذي قالته النملة قطعا، وبالألفاظ العربية وصلنا كلامها؛ ونقل لنا القرآن كلام الأنبياء والأشقياء باللغة العربية، مع أن كل واحد منهم، تكلم بلغته الأصلية، والكلام بالعربية ما هو إلا ترجمة لمعنى ما قالوا. وبهذا يتبين لنا أن العبرة بالمعاني المرادة المنشودة لا بالألفاظ عينها.
فعندما يتكلم "روبرت" الإنجليزي بلغته، ونترجم كلامه بقولنا: قال روبرت، ونخبر عما قال بالعربية. فحتى لو تكلمنا بالعربية كوسطاء في نقل المعنى، يكون ذلك هو كلامه، إذ العبرة بالمعنى وليس بالألفاظ المؤدية إليه.
وكذلك، نجد لغة الكبيوتر المعقدة لو لم يكن له شاشة لما فهمناها، فالشاشة هي الوجه السهل الواضح لما يجري في القرص الصلب وإخوانه على اللوحة الأم Motherboard ، وهو الوجه المفهوم للمتخصصين وغير المتخصصين.
وعليه، فإن كلامنا الذي نتلفظ به ليس مقصودا لذاته، بقدر ما هو مقصود لغيره، أي مقصود لأداء المعنى القابع في النفس، فتكون الألفاظ ما هي إلا عبارة أو تعبير عما في نفوسنا من معانٍ، أي ما هي إلا وسيلة إلى الإفهام. ومن هنا نتأكد أن المعنى المراد إيصاله هو الحقيقة، والألفاظ ما هي إلا مجاز لأنها لا تراد لذاتها، وإنما لإيصال المعنىالمراد تبليغه بتلك الألفاظ، والخلاصة أنه يجوز أن ننسب الكلام لصاحبه الأولـ ولو أخذناه بالواسطة وبلغة أخرى.فيكون المعنى هو الحقيقة واللفظ هو المجاز.
كلام الله الميسّر
وتأسيسا على كل ما ذُكر، - ولله المثل الأعلى- لا يمكن أن تكون ألفاظ القرآن الكريم هي ذاتها كلام الله المتعالي المتسامي، لأن كلامه تعالى لا يمكن أن يكون بلغة ما، وصوت وحروف كحروف بني البشر، لكون اللغات مخلوقة، ومتطورة الأطوار، ومهاجرة بين الثقافات، ومركبة تركيبا، ومولّدة توليدا.فعندما أراد فَإِنَّمَا]تعالى أن يخاطب عبيده في الأرض، يسّـر كلامه وسهّله للذكر، يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشّـِرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ فَإِنَّمَا يَسـَّرْنَاهُ] [مَرْيَم: 97]، وقال تعالى: [قَوْمًا لُدًّا [الدُّخَان: 58]، وقال تعالى:[بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] [القَمَر: 17]. فيسره الله تيسيرا ليفهم عبادُه خطابَه تعالى، فلا بد أن يخاطبنا بما نفهم، أي بلغتنا وبلساننا، أي باللغة العربية المخلوقة كأخواتها من اللغات الأخرى، وبلساننا أي بلغة نابعة من ثقافتنا، تَفْسِر عن نفسها،وسط هذه الثقافة، فكلمهم عما تتوق إليه أنفسهم من نخيل وأعناب وعسل مصفى، وتحدث عن الحَرّ الذي كانوا يعانون منه، وتحدث عن الإبل والحيوانات التي يعرفون،دونالتي لا يعرفون، ليوصل لهم المعاني الخالدة بلسانهم، وهكذا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ]فعل مع كل القرى، [إِبْرَاهِيم: 4].[قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...
ولو سبق في علم الله، أننا لم نفهم، -والله تعالى أعلم- لأطال الله عمر رسوله الكريم، ولاستمرتألفاظ الوحي في النزول حسب الوقائع، لإيصال المعاني الخالدة قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ]المتعالية حتى نستوعبها تماما، قال تعالى: مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ [الكَّهْف: 109]. وقال[كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ]تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ ، [لُقْمَان: 27].فكلمات الله[كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لا تنفد ولا تنتهي.
ولو استمرت الآيات في النزول لتذوقنا وانتشينا بمعانيها وتراكيبها وسياقاتها وتناسبها مهما طالت، إلا أنه سيصعب على عقل الإنسان جمعها، لذا أخبرنا تعالى بأنه أكمل لنا الدين، فقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] [الْمَائِدَة: 3].لأنه علم ظهور[وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا.. المعنى عند عباده ووضوحه وجلائه وفسـْره عبر سنوات نزول الوحي، ورأى الناسُ النموذج التطبيقي الحي للمنهاج الرباني متمثلا في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا فائدة في الإطالة، ولا حاجة إلى مزيد من التنزيل، وتيسيرٍ للكلام، الذي إن زاد منه، فإنما لمزيد تجليةالمعاني الخالدة التي ينبغي أن نسعى إلى تحقيقها في ذواتنا ومجتمعنا ومحيطنا، من عدل ورحمة وجمال وتعاون على البر والتقوى وعمل صالح وأمانة وسموّ ورفعة وعزة وإنفاق وشكر وإنصاف وتعالٍ عن سفاسف الأمور.
التعبير عن كلام الله
سيقول قائل: لكن الله تعالى قال عما أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ونتلوه إلى يومنا هذا، بل إلى يوم الدين، أنه كلام الله عينه بتلك الألفاظ، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْـرِكِينَ اسْتَجَارَكَ]والله تعالى يقول: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التَّوْبِة: 6]، وقال[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ]تعالى: مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا [البَقَرَة: 75]. فما عساه يكون الجواب،[عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ والنصوص ظاهرة جلية الدلالة على كون الذي ما نتلوه بين أيدينا هو كلام الله؟.
الجواب على ذلك سهل يسير، لكن باستحضار نصوص أخرى إلى جانب قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى]هذه النصوص، قال تعالى: النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى]، [الأَعْرَاف: 144]، وقال: [الشَّاكِرِينَ [ النِّسَاء: 164].[تَكْلِيمًا
قال الله تعالى بأنه اصطفى موسى بكلامه، فإذا كان ما أنزل الله على سيدنا محمد وعيسـى وإبراهيم عليهم السلام هو كلام الله الأزليعينه، فما هي الميزة التي ميز واصطفى بها سيدنا موسى عليه السلام؟، سيكون موسى،كإخوانه الأنبياء جميعا لأنهم اصطفاهم جميعا وأنزل إليهم كلامه !. ولا فرق حينئذ بين الكلام المنزل إليهم جميعا في القيمة وكيفية التلقي؛ إذاً، يدلذلك –والله أعلم- أن هناك تمييزا خاصا لسيدنا موسى بالكلام الإلهي الأزلي الأول، إذ هيأالله تعالى عبده موسى لسماع الكلام الأصلي من غير تيسير ولا حكاية بلغته العبرية، بل على أصله الأزلي العجيب العالي المتعالي المختلف الذي اتصف به قائله والمتكلم به تعالى، لكي يحصل له الاصطفاء والتميز في هذا الباب.
فيكون قوله ، من باب حكاية كلامه تعالى، والتعبير عنه، كما[حتى يسمع كلام الله]تعالى: حكى كلام النملة وحكى قصص الأنبياء في القرآن الكريم بالعربية، أي بغير اللغة الأصلية التي دار بها الحوار الأصلي وإنما حكى الله لنا قصصهم قَالَ أَمَّا]بلساننا ليتبين لنا المعنى. قال تعالى على لسان ذي القرنين: [الكَّهْف: 87]، وقال تعالى على لسان[مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ]موسى: قَالَ] [الكَّهْف: 60]، وقال تعالى على لسان فرعون[أَمْضِـيَ حُقُبًا [ الشُّعَرَاء: 23]. وقال تعالى على[فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [ آل عِمْرَان: 52]...[قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ]لسان عيسـى: ولا أحد من هؤلاء تكلم بالعربية، وحكاية أقوالهم في كتاب الله، باللغة العربية.
فيتخلص لدينا أن عبارة "كلام الله" ليست حجةً على كون ألفاظ القرآن العربي هي كلام الله الأزلي النفـسـي القديمعينه، إذ لو كان كذلك، لما احتاج إلى تعريب بلغة مخلوقة، ولا إلى تيسيرٍ للذكر والفهم والتدبر.
مَا يَأْتِيهِمْ]ويتأكد لنا ذلك عندما نقرأ قوله تعالى: مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ][الأَنْبِيَاء: 2]، وقوله تعالى:[يَلْعَبُونَ [ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشُّعَرَاء: 5].
هذه آيات واضحات على أن المنزل على سيدنا محمدٍ ذكرٌ محدثٌ، لأن كلام الله الأزلي، القائم بذات الله، ليس كمثل كلامه شيء، وأنه ليس في - هيأته الأولى - يشبه كلام أحد من العالمين، إذاً فلا هو بصوت ولا حرف، ولكنه عنما أنزل إلى العرب ابتداءً، يسـره ربنا لنفهمه ونتدبره ونعمل به..، إذ لو بقي على حاله، لما كان فيه نفع لأحد، لا لشـيء، إلا لأنه فوق مستوى التحمل والإدراك والفهم والاستيعاب بل فوق مستوى قلوب البشر.
فتكون الخلاصة هي أن كلام الله الذي بين أيدينا هو الكلام الميسـر للذكر، فهو حقيقة في النفسـي الأزلي، مجاز في اللفظي.
تهافت قول المعتزلة وبعض الحنابلة
ومن هنا يتبين خطأ من قال من المعتزلة أن كلام الله لا يكون إلا لفظيا ولا يكون نفسيا، أي أن ما أنزل الله تعالى إلى عباده، ليس له إلا ذلك الحال الذي أنزل عليه، وجعلوه مخلوقا، لشبهة أن المحدث لا يكون إلا مخلوقا، وقالوا إنه آيل وراجع إلى صفة العلم، كما أن الأوامر والنواهي آيلة إلى صفة وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى]الإرادة، وهذا متهاوٍ ضعيف من غير شك، يقول تعالى وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى][الأعراف:143]، [لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [ النِّسَاء: 164]، فالكلام كلام، والعلم علم.[تَكْلِيمًا
قال الله مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ]تعالى: [ فُصِّلَت: 43]،[إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ يَا قَوْمِ]فالدعوة إلى التوحيد واحدة، وكل الأنبياء جاء على لسانهم: ، كما في سورة هود[اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وغيرها، ومن المؤكد أنها حكاية عما قالوا، لأنهم لم يستعملوا هذه الأفاظ العربية عينها، وإنما استعمل كل واحد منهم لسان قومه للتعبير عنها، فنستخلص من هذه الرسالة أن المعنى القديم الأزلي عند الله شيء، وأن تيسيره والتعبير عنه بلغات الأقوام شيء ثانٍ.
كما يتبين خطأ من اعتقد أن الكلام الذي بين أيدينا هو الكلام الأزلي النفسـي عينه القائم بذات الله العلية؛ كما ذهب إلى ذلك بعض الحنابلة، وقالوا إن الكلام يطلق حقيقة على الدالّ أي اللفظ، ومجازا على المدلول أي المعنى، وبيّنا بما لا يزيد إلى مزيد إطالة، أن المعنى هو الأصل والأساس، وأن اللفظ هو التعبير عن تلك الحقيقة، أي هو المجاز.
فكلامه تعالى لا هو هو الله تعالى، كما قال ضرار بن عمرو من المعتزلة، ولا هو غيره تعالى كما قال أبو علي الجبائي من المعتزلة، كما أن كلام زيد من الناس ليس هو زيد، وليس هو غير زيد مستقلا بنفسه وخارجا عنه، وإنما كلام زيد قائم بزيد، وصفة يتصف بها. ولله المثل الأعلى. وبهذا يكون القرآن ليس مناطا للقول بمخلوقيته ولا بغير مخلوقيته، فلا نقول عنه إنه مخلوق ولا غير مخلوق؛ لكن إن شئنا التدقيق فتلاوة البشـر بالأصوات والحروف شيء، والكلام المتلوّ شيء آخر، كما أن ذكر الله على اللسان شيء، والله جل جلاله المذكور على لساننا شيء آخر.
وما أروع ما قاله البيهقي رحمه الله في كتابه الأسماء والصفات:"فَالْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَتْلُوٌّ بِأَلْسِنَتِنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِنَا، مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِنَا، مَسْمُوعٌ بِأَسْمَاعِنَا غَيْرُ حَالٍّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، إِذْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْهُ، وَهُوَ كَمَا أَنَّ الْبَارِيَ عَزَّ وَجَلَّ مَعْلُومٌ بِقُلُوبِنَا، مَذْكُورٌ بِأَلْسِنَتِنَا، مَكْتُوبٌ فِي كُتُبِنَا، مَعْبُودٌ فِي مَسَاجِدِنَا، مَسْمُوعٌ بِأَسْمَاعِنَا، غَيْرُ حَالٍّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَأَمَّا قِرَاءَتُنَا وَكِتَابَتُنَا وَحِفْظُنَا فَهِيَ مِنِ اكْتِسَابِنَا، وَاكْتِسَابُنَا مَخْلُوقٌ لَا شَكَّ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ، [الحج: 77] وَسَمَّى[وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ فِعْلًا" انتهى كلامه.
فتكون الخلاصة، أن كلام الله النفسـي الأزلي شيء، وكلام الله الميّسـر للذكر الذي بين أيدينا، إنما هو تعبير (عبارة) وحكاية عن كلام الله الأزلي، بلسان المخاطب.
خطأ القول بأن القرآن قديم النوع حادث الآحاد
ذهب ابن تيمية رحمه الله للخروج من إشكالية كلام الله الأزلي الذي هو صفة من صفات الله، قائم بذاته تعالى، وبين الكلام المحدث المنزل، فقال بأن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، أي أن آحاد كلامه هو الحادث، فكما أن الإنسان متكلم، أي متصف بصفة الكلام بطبعه، إلا أنه يتكلم في الوقت الذي شاء والمكان الذي شاء، أي أن آحاد كلامه هي الحادثة وليس كلامَه ككلي.
ومناقشة هذا المعروض أمامنا يأخذنا للحديث عن مسألتين:
إما أن يكون رحمه الله جعل كلام الله "كُـلًّــــا" متكونا من مجموعة أجزاء وآحاد، فيتحتتم بطريق الالتزام حدوث الكل بحدوث أجزائه، التي تكّون منها، أي من مجموعها ولو كانت ملايين الأجزاء، وبذلك يكون كلام الله الذي قال عنه إنه قديم، لا يقبل الأزليةـ أي كونه قديما بالمعنى العرف اللغوي، لا أنه أزلي بلا أولية ولا ابتداء، وهو رحمه الله لا يريد هذا قطعا.
وإما أن يكون رحمه الله جعل كلام الله "كــليًّا"، والكلّي لا وجود له في الخارج، وإنما هو مفهوم عقلي، بل حتى ولو اندثرت كل جزئياته لبقي متصورا في الذهن، فلو انقرضت كل الأحصنة والأفراس فسيبقى في الذهن كليّ الفرس والحصان، ولو انقرضت كل السيارات لبقي مفهوم السيارة حاضرا في الذهن. وبهذا يُنتصر لرأي ابن تيمية رحمه الله بأن وجود آحاد كلامه تعالى في الخارج، لا يلزم منه وجود الكلام ك"كلّي" في الخارج، بل يبقى على وجوده في الذهن من غير تصور لمخلوقيته وحدوثه، فالكلي لا يعد بجزئياته، فلا نقول إن زيدا وعمرا وخالدا كوّنوا الإنسان، لكون الكلي هو تمام حقيقة الجزئي، وإنما الذي يعد بأجزائه هو الكلّ، فالمسامير وقطع الخشب والغِراء (اللِصاق) هي التي كوّنت الكرسي، لأن الكل ليس تمام حقيقة الجزء.
والجواب على كل ما ذكر، مع ظهور صوابه عند عدم التعمق، نقول: إن الكلي يتصور في الأذهان بطريق "الانتزاع"، فلو افترضنا الحديث عن كلّي "الشجرة" مثلا، فإن الجزئيات هي التي تُرفع إلى الذهن، أي يوجد في الذهن مختلف الأشجار، المثمرة وغير المثمرة، العالية والقصيرة، شجرة الصنوبر، والشجرة الزيتون وشجرة الأرز... ومن هذه ينتزع كلي الشجرة أي المفهوم في الذهن، ويَرتفِع من الجزئي (مختلف الأشجار المتنوعة) إلى الكلّي (الشجرة كمفهوم)، وتتجرد كل تلك الأشجار من ألوانها وأوصافها لكي يتجلى المفهوم واضحا جليا في الذهن.
بما أننا نتكلم عن كلّي "الكلام"، فلولا جزئياته وأفراده وآحاده، لما تكون لدينا المفهوم الكلي في الذهن ابتداءً، فهب أنه لم ينزل إلينا كلام ولا تكلم أحد من العالمين، لم يكن ذلي الكلام ليجد طريقا إلى الذهن،وهَبْ أنه لم تخلق شجرة في الوجود، لما تصورنا مفهوم الشجرة ابتداءً. ولن يتم انتزاع لكلّي الكلام في الذهن، ولما عرف الهذه المفهوم.
بل حتى الكلّيّ المعنويّ الذي لا وجود لجزئياته في الخارج، انتزعناه من مختلف المواقف والمشاهد المعيشة، فكلي الرحمة مثلا، وكلي العقاب، وكلي الظلم، وكلي العدل، انتُزِعت هذه الكليات في الذهن من المواقف المتكررة المعيشة التي تجلت فيها هذه المفاهيم، فكلي الرحمة – مثلا - انتزع من حنو الأم على ابنها، وإطعام العصفور لفراخه، ومن غضب القطة ممن اقترب من هِرَّاتها وشبه ذلك.
وبهذا نستخلص أن كلام الله حسب قول ابن تيمية رحمه الله بأنه قديم النوع حادث الآحاد لا مفر من التزامه حادثية الكلام القديم ككلي منتزع في الذهن، فلو لم يتكلم الله وأخبر عن كلامه، لما علمنا بصفة الكلام، وهذا غير مرضي عند العلماء، بل حتى عنده رحمه الله.
وبما أن الكلام ابتداءً لفظ مشترك بين الكلام النفسـي والكلام اللفظي، فيطلق على هذا وهذا،فيكون قولنا بأن القرآن المتلو هو عبارة (تعبير) عن كلام الله الأزلي النفسـي، هو الصواب تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ]الذي لا محيد عنه، يقول تعالى: [الْمَائِدَة: 116].،[مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فكلام الله اللفظي تعبير عن كلام الله النفسي، أي أن الكلام اللفظي هو الدالّ على الكلام النفـسـي أي المعنى القديم، وتكون الأصالة للمدلول، والتبع للدالّ، ويكون المدلول هو الحقيقة، والدال هو المجاز.
أو نقول إن من كلامه تعالى حادث كحديثه تعالى عن خلق السماوات والأرض، لأنه تعالى تكلم بها بعد الخلق، ومنه قديم كحديثه تعالى عن ذاته وأسمائه وصفاته لأنه تكلم تعالى عن ذاته الأزلية العلية القديمة كما اختار القرافي رحمه الله.
قيمة كلام الله الميسَّر
أراد الله تعالى لكلامه المنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أن تخلد ألفاظه بذاتها، فحَفِظها بنفسه العلية، وهيأ لها أسباب حياتها واستمرارها الدائم باعتبارها وعاءً للمعاني المتعالية الخالدة، لأنه لا تستمر الحمولة إلا باستمرار حاملها، ولن تسهل الطريق إلى المعاني المنشودة لو تحرفت الألفاظ ولُعِب بها بالزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، وبذكر المرادفات بدلا من الكلمات الأصلية، لأن السياق حاكم ومؤثر في المعنى، فكان الحفظ المتناهي الدقة للألفاظ ضامنا لاستمرار المنهاج الرباني المنشود. وحاملا للمعاني الجواهر، فاكتسبت الألفاظ الخلود والقدسية من خلود المعاني الربانية الخالدة،والمدلولات المتسامية المتعالية، بل لأن الذي يسرها للذكر وأنزلها هو رب العالمين لا إله إلا هو.
تلك الكلمات الطاهرة، المنظومة من رب العالمين، تلك الكلمات التي لا يشبع منها العلماء، ولا تلتبس بها الألسن، ولا تنقضـي عجائبها، ليست كأي مقروء مخلوق مهما بلغت بلاغة وفصاحة صاحبه، إنه النظم الرباني الميسـر للذكر، إنه الوحي الموحى إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، المنزل عليه الذي لا يأتيه الباطل من إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً]بينه ولا خلفه، إنه القول الثقيل [ الْمُزَّمِّل: 5]، إنه التنزيل، إنه الهدى، إنه النور، إنه[ثَقِيلاً المنهاج الأسمى، إنه الكلام الأتم، إنه الروح السارية، إنه السبيل الهادي، إنه الحياة العلية، إنه المكانة السَّنِيّة، إنه المعشوق الأبدي، إنه الناصح الأمين، إنه بكل اختصار: كلام الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أنهى تحريره مصطفى الشنضيض عفا الله عنه