بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أكتب عن قطاعي الحبيب، عن أهلي وجيراني وعائلتي وأحبابي في قطاع غزة، وعن حارتي القديمة ومسجدي العامر ومدرستي الأولى وجامعتي الأصيلة، أكتب عن المخيمات المنكوبة، وعن البلدات الفقيرة، وعن المدن الحزينة، والمدارس الكئيبة والجامعات الجريحة، أكتب عن البيوت الخربة والجيوب الخالية والبطون الخاوية، وعن الأطفال الذين يتوحمون على الحلوى والسكاكر، وعن الطلاب الذين يقطعون المسافات مشياً على الأقدام إلى جامعاتهم، وعن الآباء الذين يخفون دمعتهم وهم يبحثون عن عملٍ يوفر لهم كسرة خبزٍ تذهب جوع أولادهم وتسكت أنين أطفالهم، وأكتب عن الأم الذي جف الحليب في ثدييها وهام طفلها بحثاً عنه في صدرها، وعنها وقد أضناها السهر وأذهب بصحتها الخوف والقلق، وهي تبحث عن دواءٍ لطفلها أو علاجٍ لولدها، وهي تراه بأم عينيها يذوي أمامها، وتخور قواه وتنهار صحته أمام ناظريها.
أكتب عن الذين سكن اليأس قلوبهم وفقدوا الأمل في غدهم، وباتوا لا يتوقعون نجاحاً ولا يأملون فلاحاً، فقد خسروا فرص الدراسة وفقدوا مقاعد الجامعة، وعنهم جميعاً بعدما تخرجوا وقد أصبحوا جيشاً من العاطلين عن العمل، والباحثين عن فرصٍ بلا أمل، فباتوا ينامون نهارهم ويسهرون ليلهم، أو يتسكعون في الشوارع إن استعصى النوم على أحدهم، لكثرة مشاكلٍ وتزاحم همومٍ عندهم، وأكتب عن المرضى المستلقين على أسرة المستشفيات وفراش المصحات، يشكون نقص الدواء وتعذر إجراء العمليات، ويعانون من انقطاع الكهرباء ويشكون من توقف الأجهزة وتعطل المعدات، وانحباس الأكسجين واختناق الأنفاس وتحشرج الأرواح.
أكتب عن العائلات التي تسكن في العراء، تفترش الأرض وتلتحف السماء، فلا جدران تسترها ولا سقفاً تحميها، فيسري البرد في أوصالها وتتجمد الدماء في عروقها، وتزرق شفاههم وتكاد تتجمد أطرافهم، فقد طال بقاؤهم في الشارع ينتظرون الإعمار ويتوقعون إعادة التشييد والبناء، ولكن آمالهم خابت وحساباتهم أخطأت، وعن أطفالهم الذين يخوضون في الوحل ويغوصون في المستنقعات، حفاةً إلا من نعالٍ لا تقيهم البرد، ولا تحميهم من الصقيع، ولكنهم بعناد الطفل يمشون، وبإصرار صاحب الحق يمضون.
وعن أهلي الذين يتحلقون جميعاً حول كانون حطبٍ، يشعلونه ليلتمسوا منه بعض الدفء والقليل من الحرارة التي يحتاجون إليها، ولولا بقايا حطبٍ يجمعونه، أو القليل من الفحم يحصلون عليه، ما شعروا بدفءٍ ولا خلدوا إلى راحةٍ، رغم أن بعض مواقدهم تخنقهم، ويلقون أطفالاً وعجائز بسبب غازها السام والخانق منيتهم.
أكتب عن أهلي وجيراني، عن زوجتي وبناتي وعن حفيدتي الصغيرة، عن أصدقائي وكل سكان قطاعي الحبيب، المحرومين من السفر، والممنوعين من المغادرة، والمحكوم عليهم بالانفصال عن بعضهم والشتات فيما بينهم، والحرمان من جامعاتهم، وفقدان وظائفهم وخسارة إقاماتهم، وتكبد المزيد من الخسائر والعقوبات، ثمناً لتذاكر جديدةٍ، و تسويةً لإقاماتٍ مخالفةٍ، أو استعادةً لمقاعدَ دراسية مفقودة، وقد مضى على بعضهم سنةً محاصراً في مخيمه، وممنوعاً من السفر من بلدته، وإن سمح له وسافر فإنه يعذب ويمتهن، ويهان ويسب ويشتم، وقد يضرب أو يخطف أو يرحل، حتى عاف البعض السفر حفظاً للكرامة وخشيةً من السب والشتم والإهانة.
أكتب عن اليأس والقنوط والحنق والغضب، والثورة والانتفاضة والتحفز واللهب، وعن الحقد والكره والرغبة في الانتقام والثأر، أكتب عن الذين فقدوا أحبتهم لنقص الدواء أو امتناع السفر، للحصار المطبق والقيد المحكم، وعن الذين أصابتهم رصاصاتٌ وهم في عرض البحر يبحثون عن زرقٍ لأطفالهم وطعامٍ لعائلاتهم، وقد خرجوا في جوف الليل يواجهون ظلامه البهيم وأمواج البحر العاتية وزوارق العدو الغادرة، ولكنهم برصاصٍ صديقٍ وببنادق كان ينبغي أن تكون لحمايتهم والدفاع عنهم يقتلون، أكتب عن الثائرين بصمتٍ، والغاضبين بألمٍ، وعن المسكونين بالوجع والساكتين عن الظلم حرصاً على القيم.
أكتب عن أمي وأبي، وعن أختي وأخي، وعن جاري وابن مخيمي، الذين ما بقي لهم في الوطن حلمٌ ولا على الأرض مكانٌ، وقد ضاقت عليهم الأرض وهي ليست رحبة، بل ضيقةٌ ومحاصرة، وصغيرةٌ ومسيجة، ومحدودة ومنقوصٌ أطرافها، فتمنوا الموت وسعوا إليه غير خائفين منه ولا وجلين، فقد استوى عند بعضهم الموت والحياة، فما بعد الموت خيرٌ مما يواجهون، وما عند الله أفضل مما يلاقون، وما سيجدون عنده سبحانه وتعالى أكثر كرامةً مما حرموا منه وكانوا له يتطلعون وعنه يبحثون.
الأوضاع العامة في قطاع غزة كارثية جداً، ومأساوية إلى أبعد الحدود، ومزريةٌ أكثر من أي وقتٍ مضى، وقاسية فوق التصور وصعبة كأنها الخيال، وهي أسوأ من أن يتحملها شعب، أو أن يصبر عليها مجتمع، أو أن تقبل بها أمة، وهي أقسى بكثير من أن يتعايش معها السكان أو أن يتأقلم عليها المواطنون، فسكان القطاع محاصرون بلا رحمةٍ بين مخالب العدو ومفرمة الصديق ومياه البحر الغادر، وتآمر الشريك وصمت القريب وعجز القوي، وانحياز الظالم وحماية المجرم.
واقع أهل غزة مريرٌ، ولياليهم باردةٌ، وأيامهم قاسية، ومستقبلهم مجهولٌ وغدهم غامضٌ، الحياة عندهم معطلة، وفرص العمل معدومة، والرواتب جداً ضئيلة، والسيولة المالية مفقودة، والبنوك مغلقة، وأجهزة الصرف لا تعمل، والكهرباء مقطوعة، ووقود السيارات غير متوفر، ولعلهم يقولون أنهم ما عاشوا يوماً واقعاً مريراً كما يعيشونه هذه الأيام، ولا لاقوا مآسي وعاشوا أحزاناً كما يعيشونها في هذه المرحلة، ولا ذاقوا فقراً وجوعاً وحرماناً وذلاً وهواناً كما يذوقونه كل يوم ويتجرعونه كل ساعة، وما عرفوا يوماً معنى ظلمِ ذوي القربى إلا هذه الأيام، إذ أن ظلم العدو يقويهم وظلم الأخ والشقيق يضنيهم، وإجراءات العدو القاسية تصلبهم وممارسات الأخ والشقيق تيأسهم وتقتل الأمل في قلوبهم.
فيا أيها الأحرار أيها الغيارى، يا أصحاب الضمائر الحية والقلوب الصادقة، أغيثوا غزة وأنقذوا أهلها، وهبوا لنجدة أبنائها ونصرة سكانها، وكونوا معهم وقفوا إلى جانبهم، انصروهم وأيدوهم، ساندوهم وكونوا لهم عوناً، واعلموا أنهم يرفعون رؤوسكم عزةً، ويعلون راياتكم نصراً، ويذودون عن شرفكم قتالاً، ويردون عن أرضكم عدواً، ويلقنونه في كل مرةٍ نيابةً عنكم درساً، ويلحقون به هزيمةً، إنهم رأس حربتكم وسوط نقمتكم، وهم صفوتكم وفي أرضهم خير أهلكم وأطهر مقدساتكم وأصدق المرابطين في دياركم.