حسن عبيابة
بات من الضروري أن يتم تقييم حقيقي وموضوعي من طرف السياسيين والباحثين والأكاديميين لثورات الربيع العربي التي بدأت سنة 2011، من خلال ما يقع في تونس أو في غيرها؛ على أن يتضمن هذا التقييم ثلاثة أسئلة، وهي: هل ما وقع ويقع في بعض البلدان العربية أثناء ثورات الربيع العربي وبعدها هو ثورة نابعة من وعي الشعوب وتشخيصها للواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟ هل حققت هذه الثروات أهدافها التي نادت بها؟ وما هي النتائج المحصلة حاليا؟ وهل هذه النتائج إذا توفرت مؤسسة لمستقبل واعد أو مستقبل غامض؟ أسئلة يجب الإجابة عنها بعيدا عن الإيديولوجيات والتموقعات والخلفيات التي تبين أنها تشوش على المرحلة أكثر مما تفيدها.
يبدو أننا بصدد مساءلة التاريخي العربي الذي ورثناه والتاريخ الذي نعاصره، فقد حدثت العديد من الثورات العربية في العديد من دول العالم العربي دون تسميتها، لكثرة شهرتها وقسوة فشلها في عالمنا المعاصر، منها ثورات كانت ضد أنظمة قائمة ومنها ما كانت ضد الاستعمار، ومنها ما كانت مرتبطة بنزع السلطة من الآخر، ومنها ما كان انتقاما لإقصاء أطراف من ممارسة الحكم. وكل هذه الثورات، وعلى مدار ستة عقود الماضية، لم تتمكن من الوفاء بوعودها التي ملأت المنابر والقاعات والساحات والجرائد بخطابات أبكت الشعوب والجماهير وتغنى بها الشعراء والفنانون؛ وكانت تشكل أملا واعدا في الحياة وتنادي بتوفير دولة الرخاء. لكن مع الأسف، أثناء هذه الرحلة الزمنية التاريخية توفي جيل دون أن يرى أي إنجاز وولد جيل دون أن يعيش في دولة الرخاء، وسيولد جيل آخر في العالم العربي دون أن يدرك دولة التنمية للجميع؛ لأن ثورات الوهم والانشغال بحروب بلا هدف، وهدر الطاقات المادية والبشرية بدون ترشيد، جعل التاريخ العربي تاريخ حروب وانهزامات واتهامات، وكأن القدر جعل في العالم العربي شعوبا تتمنى في هذه الحياة كل شيء ولكنها لا تدرك منها أي شيء؛ بل إن التاريخ الحديث للعقود الستة الماضية رسخ شيئا واحدا لدى المواطن العربي هو الإحباط والانكسار، سواء تعلق الأمر بالثورات الماضية أو الحالية أو ربما التي قد تأتي.
من هنا لا بد من دراسة عميقة للماضي والحاضر من أجل استشراف المستقبل، للإجابة عن الأسئلة المطروحة بعيدا عن الإجابات التي تكرس الإحباط نفسه في تقدير سلبي إلى الوراء المليء بالوهم العاطفي والوعد بالسراب والوعيد بالحساب، في عالم مجهول وتصديق التاريخ المكذوب والمكتوب معا.
إن الوعي السياسي بسلبية الماضي وتحريفه عن حقيقته قد يكون أكبر قوة محركة للفكر والعقل والتاريخ في الحاضر والمستقبل.
إن الأسئلة الثلاثة المطروحة ليست لها إجابات محددة بقدر ما تطرح أسئلة أخرى أكثر عمقا وجرحا وألما وإشكالا في عالم لم تبق فيه منظمات دولية تحترم قراراتها، ولا دول تحترم حدودها، ولا شعوب تحترم كرامتها، ما سيجعل عالمنا العربي عرضة لكل أنواع الإفلاس المادي والمعنوي والحضاري. وفي هذا السياق يمكن العودة إلى تونس الشقيقة كمثال لبلد بدأ بثورة "الياسمين"، والتي لم تنته بعد...بحثا عن أهداف مشتركة في الشعارات، لكن بروافد وأفكار متناقضة، كمن يقود سفينة في بحر لا سواحل له، ينشد الاستقرار والأمن وتوفير دولة الرخاء.
إن الذين ثاروا وانتقدوا في عالمنا العربي هم الذين حكموا، وهم الذين فشلوا، وهم الآن الذين يحاولون الإنقاذ بأفكار فشلوا بها سابقا، ولن يتمكنوا من فعل أي شيء بدون التخلي عن الأفكار الموروثة والأفكار الانعزالية والإقصائية، وبدون واقعية.
ما يقع في تونس نموذج لثورات بلا أهداف، وأهداف بلا واقع، وواقع بدون القدرة على التعامل معه. من خلال زيارتي لتونس الشقيقة، البلد الذي نحبه ونحب شعبه، وفي نقاش مع الأخوة بتونس، أدركت إلى أي مدى تدهورت الوضعية الاجتماعية والاقتصادية في بلد بدأت فيه الثورة ولم تغادره، لأن السياسة السياسوية طغت على الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي يبقى هو الهدف الأساسي من كل الثورات. ومن خلال دراسة عامة لمخلفات الثورات العربية في البلدان يمكن تسجيل ما يلي:
* مطالب الثورات وأهدافها الاقتصادية الاجتماعية تبددت لأنها لم تبن على الواقع الفعلي للاحتياجات وكيفية تلبيتها.
* إسقاط نظام مستبد وقيام نظام ديمقراطي لا يعني مباشرة تحقيق التنمية للجميع في عقد أو عقدين من الزمن.