بعد عملية التطهير التي عرفها الاتحادُ السوڤياتي سنوات [37 ــ 36 ــ 1935]، وبعدما أُبعِد فرسانُ الحرس القديم من أمثال [زينوڤييڤ، وكامينييڤ، وبوكارين، وإيکوف،..] بحيث حُوكِموا محاكمة صورية، وأُعدِموا، وبعدما طُرِد أكلةُ وجلاّدو الأمس، فُسِحَ المجالُ لأكلةٍ جدُد، وجلاّدين تحت يافطة التغيير، والإصلاح؛ فاستُقدم السياسيون، والمثقفون الساخطون، فدُجِّنوا بعدما عادوا من المنافي أو الإهمال، وحلّ مكانهم في [الكولاغ] أصحابُ وطنيةٍ صادقة، وكفاءات عالية، وثقافة مثالية، من بينهم مصمّمُ الطائرات الشهير [توبوليڤ]، ومنجزُ مشروع قطار [ترانسيبيريان] العظيم، وصاحبُ مشروع [المتروبوليتان] في [موسكو]، فحلّ مكانهم أكلة، وناهمون من محبّي الرفاهية، والمناصب العالية، والتعويضات الخيالية، في وقت كانت تُضربُ فيه أقواتُ الشعب، وتُصادَرُ فيه محاصيلُهم الزراعية، وتُلْغى فيه معاشاتُ الطبقة العمّالية، فوُفِّرت حياةُ البذخ والثراء، لأمثال الكاتب [ماكسيم غوركي] الذي كان منفيا في إيطاليا، فعاد إلى روسيا وانخرط في الحزب الشيوعي، وجعلتْ منه وسائل إعلام الكذب أديبًا أروعَ وأعظم من [شيكسبير]، ثم صار المدعو [إسطاخانوڤ] منظِّرا، ومصلحًا في ميدان الشغل، ومنافسا كبيرا للمنظّر الأمريكي [تايلور] تماما كما هو الآن الشأن بالنسبة لوزير التشغيل [يتيم] في بلادنا والذي حطم رقما قياسيا في الإضرابات القطاعية في عهد [عباس الفاسي]، يوم كان العبقري [يتيم] رئيسا لنقابة [البيجيدي] وقتها؛ وهؤلاء في [روسيا] غفر لهم تاريخهم، حيث كانوا أعداء الملكية، تماما كما هو شأنُ أعداء الملكية في بلادنا، والذين ينتقمون من الشعب المغربي الذي يمقتهم، ولا يتحمّل النظر إليهم..
لقد انطلت اللعبة حتى على الأديب البريطاني الساخر [بيرنارد شو] حين زار روسيا، ورأى العمّال يرقصون في المعامل، والفلاحين يرفعون البطيخ في الحقول، فقال: [رأيتُ المستقبلَ وهو يمشي].. عادت أشجار [نويل]، بعدما كانت تعتبر محرّمةً في العقيدة الشيوعية؛ وجاءت موسيقى [الجاز] بعدما كانت تعتبر مظهرا من مظاهر الغرب المنحطّة، وأصبحت الحياةُ سهلة، وزاهية في [روسيا] الشيوعية، تماما كما هي اليوم زاهية في مغرب [الإخوانية والشيوعية والاشتراكية والليبرالية] المتوحّشة.. كانت دعاية الكذب على أشدّها فيما كان الشعب الروسي يعيش في الفقر، ويعاني الجوع، والفاقة، والخوف والإرهاب الشيوعي.. كان المسؤولون وأسَرُهم يعيشون في مجتمع شيوعي حياة فاقت في بذخها حياة البرجوازيين، والرأسماليين الغربيين؛ فوزّعتِ المناصبُ، والثروات على المتحزّبين الفاشلين؛ ثم زُرعت في كل المرافق أطرٌ فاشلة لولائها للحزب الشيوعي، وعند اجتماعات أو مؤتمرات الحزب كان هؤلاء، هم المؤيدين، والمصفّقين، والمانعين لكل قرار يخدم الشعبَ أو يمس بمصالح [النوموكلاتورا] في البلاد، تماما كما هو الشأن في بلادنا في مجلسي البرلمان، والمستشارين، بلجانهما الشكلية المعادية لمصالح شعبنا وملكيتنا..
لا؛ بل حتى نساؤهم كان لهنّ نصيب من الكعكة، ورأيٌ يدلين به في وسائل الإعلام المضلّلة، وكن يقدَّمن للعالم باعتبارهن نساء الشعب الروسي، تماما كما هو الشأن في بلادنا اليوم، حين يتحدّثون عن المرأة المغربية المتْرفة، حتى يغطّوا على واقع المرأة المغربية الحقيقية في الأحياء الشعبية المهمّشة، والقرى النائية المصعوقة بسبب البرد، والمعزولة بالثلوج، وفي قمم الجبال الشاهقة؛ هناك حيث الضباب الكثيف، والأفق غطّاه السديم، والسهوب تعصف فيها الرياحُ الهوجاء، تذكِّر بحياة الإنسان في العصر الحجري السحيق.. صارت للراقصات في [روسيا] وللمغنّيات قيمة هيهات من أن تعادلها قيمةُ [توبوليڤ، أو باستيرناك] أو [توخاتشيفسكي] جوهرة الجيش الأحمر الذي أُعدم ظلما وعدوانا، وترك فراغا ستعاني منه [روسيا] وتتحسّر على إعدام رجل يصلح ليوم كريهة وسِدَاد ثغْر، وقد حدث ذلك فعلا بعد هجوم [هتلر] على [روسيا] في (22 يونيو 1941)..
هؤلاء النسوة، هؤلاء الرجال البسطاء، هم الذين دافعوا عن [روسيا] عند عملية [بارباروسة] التي شنها النازيون.. تقول السيدة [سفيتلانة] وكانت سائقة دبّابة [تي: 34] في معركة [كورسْك]: [كان وضعُنا نحن النساء صعبا للغاية ومقرفًا عند العادة الشهرية، وخاصة بصحبة الرجال؛ كانوا يغضون الطرف لحيائهم، ولم تكن لدينا وسائل لمقاومة دم الحيض والألم الذي يصاحبه، والمعركة على أشدها..].. أقول للسيدة سائقة الدبابة: [لحسن حظك يا سيدتي، أنه لم يكن بصحبتك (إخواني)، فإنه كان سيغتصبك رغم دم الحيض؛ فهو يضاجع حتى المرأة الميتة، فما بالك سيدتي بالمرأة الحائض؛ فهؤلاء ضعاف النفوس، قليلو الإيمان، ومنعدمو الورع أمام الفروج التي ليس عليها أقفال، وأمام الأموال التي لا يحرصها رجال؛ كان سيقضي حاجته بدعوى (مضاجعة الوداع) رغم أن القذائف تخبط جنبات الدبابة، لأن الغريزة الجنسية تعطّل وعيهم، وتتحكم في سلوكهم].. فهم رجال، وليسوا برجال؛ فمنهم من كان يهاب (مقدّم الحَوْمة)، ومنهم من فرّ يوم العملية الإرهابية في [البيضاء] حتى لإنه نسي حذاءَه، واليوم يظهرون فحولتهم على المغاربة في الحكومة؛ إنها شجاعة الجبناء..