عندما يتعلق الأمر بالشأن الديني ومجالاته الاجتهادية المتعددة يسير جلالة الملك أمير المؤمنين بتؤدة نادرة، حيث يميز بين المطالب الفئوية ومدى قدرتها على الانغراس في مجتمع من "المتشرعة"، ليس بالسهل إقناعهم بمقارعة مستويات الاجتهاد الفقهي، خصوصا بعد أن اجتمعت على مجتمعات المسلمين عقليتين: عقلية تدعو لإغلاق باب الاجتهاد بشكل نهائي وتعتبر رسالة الشافعي أقصى ما وصل إليه العقل الإسلامي في باب أدوات الاجتهاد، والعقلية الثانية عقلية ذكورية ترتكز على قراءات كسولة وماكرة للنص الديني قصد تأبيد هيمنة الذكور على الحياة العامة.
في موضوع القرار الملكي بالسماح للنساء بامتهان حرفة "العدل" أو لعْدول" بالعربية المغربية، نكون أمام ثورة ثقافية تهدف إلى تطوير المجتمع المغربي وإقرار الإنصاف والمناصفة قولا وفعلا، حيث ما زالت الأحزاب تستعمل المرأة لتأثيث فضاءاتها وليس للقيادة الفعلية، لكن الرؤية الملكية مختلفة.
في الثورة الملكية هناك هدوء وإصلاح طويل الأمد انطلق مع مدونة الأسرة، التي منحت المرأة المغربية الكثير من المكتسبات، وتجاوزت بشكل جدري قانون الأحوال الشخصية، على اعتبار تطور مفهوم العائلة نحو الأسرة بدل المجموعة البشرية التي يحكمها رب الأسرة الكبير الذي لا يرد له كلام.
يعتمد الاجتهاد الفقهي الذي يتبناه جلالة الملك بصفته أمير المؤمنين الانطلاق من الواقع نحو النص، أي أن الواقع هو الذي يسائل النص وليس تنزيل النصوص على واقع متحرك فيتجمد النص والواقع. هذه المنهجية هي القادرة على استنطاق النصوص المقدسة، التي تعتبر ساكنة ما لم يتحدث بها الرجال، وعلى عكس ما تذهب إليه كثير من المدارس الفقهية، تبقى المدرسة المغربية أكثر انفتاحا من غيرها.
لا يجد علماء المغرب حرجا في الاجتهاد لكن دائما هناك الرؤية الثاقبة لتطور الواقع باعتبار العرف حاكما في أي عملية اجتهادية "وآمر بالعرف". أي أن السوسيولوجية محدد أساسي في عملية الاجتهاد، وهي التي تحكمت في مدونة الأسرة واليوم السماح للمرأة بممارسة مهنة "العدل".
ففي كثير من الأحيان يتطور المجتمع في حركة سابقة لتطور المكونات الاجتماعية والسياسية، التي تكون متخلفة عنه خشية أن ينتهي دورها، لكن المعني بالاجتهاد يراقب هذه التحولات ولن يكون الجواب إلا من أمير المؤمنين باعتبار الفقيه المجتهد، الذي يمكن أن يعقد حكما فقهيا ثانويا يتجاوز الحكم الأصلي وفق القواعد الأصولية المعتبرة في المدرسة المالكية المغربية.
يعتمد الاجتهاد المغربي على قاعدة أساسية ألا وهي أن الإسلام لما جاء منح المرأة الكثير. حيث انتزع أشياء كثيرة من الرجل ومنحها للمرأة لم تكن لتحصل عليها بل كانت سلعة تورث. ومنحها الإسلام كل ذلك قبل الحركة النسوية ودون نضال. إذن هذا الإسلام الذي منحها كل ذلك في نظام عالمي شكلت العبودية قاعدته الأساسية قادر على أن يمنح المرأة أكثر من ذلك في اتجاه مساواتها بالرجل في كل مناحي الحياة.