لا يوجد إلا عالم واحد. وليعذرني الرفاق الذين يؤمنون بعالم آخر ممكن. كما يقول الشعار.
هذا هو العالم الوحيد.
عالمنا جميعا في هذه الأرض.
ولن نغيره بشتمه. ولا بالاحتجاج عليه. بل بالمساهمة فيه. وبالدخول إليه.
لكن اليسار حالم.
وخرافي. ومتناقض.
وكل الإيديولوجيات نزلت إلى أرض الواقع. وتأقلمت معه. واستفادت من هذا العالم.
والأديان تخالف آلهتها. وتحينها. وتطبع نسخا مزيدة ومنقحة منها.
والكاثوليكية تغار من البروتستانت.
ومن الكالفينية التي تقدس النجاح في الحياة وتعتبر المال والطموح والربح عبادة واستجابة لتعاليم الرب.
إلا اليسار.
مازال يبحث عن عالم آخر ممكن.
ومازال مؤمنا بالغيب. ومغتربا. ويبحث عن الجنة. وعن المدينة الفاضلة.
وفي نفس الوقت مقتنعا بالهامش الذي يشغله. وملفوفا على نفسه. ومتقوقعا عليها.
ومقتنعا بوجود عالم آخر.
عالم يسود فيه بؤس الإنسان. ويكره فيه المجتمع الأغنياء. ويشكك فيهم.
وليعذرني الرفاق إن ذكرتهم باليوتوبيات القريبة.
وبتاريخ البارحة.
آه أيها الرفاق. وكأن قرونا مرت على”احتلوا وول ستريت”. بعد أن ابتلعها هذا العالم القوي. العالم الحقيقي. عالم المال. والرأسمال. وصارت اليوم مجرد ذكرى.
ولا أحد يتذكرها.
وهل منكم من يتذكر “اغضبوا” لستيفان هيسيل.
لقد نسيتم هذا الشخص أيها الرفاق.
ورغم طيبة الرجل. وإنسانيته الطافحة. فلم يعد أحد يعتمد على كراسه.
وانتهت قصته.
وانتهت حماسة عالم آخر ممكن.
وانتهت عودة اليسار. وهل الميت يعود.
أما وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس. فقد تحول إلى سائح. في هذا العالم الذي يرفضه. ينتقل من بلاتو تلفزيوني رأسمالي إلى آخر. ليروج كتبه.
كما تحول إلى شاو يتفرج فيه المستهلكون. والجمهور المتحكم في أذواقه. وفي مواقفه.
أما حزبه. فقد طبق ما لم يطبقه أي حزب يميني من اشتراطات فرضها العالم الموجود.
العالم الذي من لحم ودم. وقوة. عالم الأبناك. وعالم البورصة. وعالم الدول الشركات. كما يقول منظرو اليسار.
وآخر اليوتوبيات القريبة. حين كان يخرج اليساريون في الليل. ويملأون ساحة في العاصمة الفرنسية باريس. ويغنون. ويرقصون. ويشربون. ويحبون بعضهم البعض.
ويصنعون عالم آخر ممكنا في الظلمة. وفي وقت يكون فيه الرأسمال نائما. ويستعد لنهار آخر.
وفي الصباح لا أثر لليسار الذي هده السهر.
فيستيقظ العالم الحقيقي. عالم الشركات. وعالم الاقتصاد الحر. بينما الرفاق يشخرون.
وكما لو أنهم ليسوا من هذا العالم.
وكما لو أنهم أهل الكهف.
واعذروني أيها الرفاق.
فالقصة هنا ليست ماركس ولا لينين. ولا الاتحاد السوفياتي.
بل أمس القريب.
بل هذه اليوتوبيا اليومية. والتي تظهر بين الفينة والأخرى. ثم تمحي.
وهذه الأحلام التي تمر كفاصل إشهاري.
وكفسحة للترويح عن النفس.
وكفرجة يصنعها هذا العالم.
ثم أين هي مناهضة العولمة. وأين هي العولمة البديلة. وأين كل ذلك الزخم.
وهل استسلمتم.
وخبروني.
هل مازلتم تسافرون إلى المنتدى الاجتماعي العالمي.
وأعرف أنكم تفعلون ذلك من أجل السفر. وفي قرارة أنفسكم مقتنعون أن عالم آخر ليس ممكنا.
كما تنصبون خيمة في حفل لومانيتي
وتكرعون البيرة
وتلتهمون النقانق. وتسهرون إلى وقت متأخر من الليل.
ولا تقترحون فكرة واحدة.
ولا تساهمون بأي شيء
بل تحتجون دائما
وتشتمون دائما
وتخونون دائما
ويسفركم الرأسمال. ويهتم بكم. ويغطيكم إعلاميا. ويضعكم في محميات. ويفرج مواطنيه المستهلكين عليكم.
ومن أقفاصكم تصرخون: عالم آخر ممكن.
ومن نومكم
ومن كسلكم
ومن يقينكم
تصرخون
وتمر عليكم الأحداث
بينما لا يوجد إلا هذا العالم غير العادل
هذا العالم الجميل
عالم الطموح الذي ترفضونه
عالم الفرص
هذا العالم الذي هو أفضل العوالم الموجودة منذ أن بدأت الحياة
وترفضونه
وتعيشون بفضله
ورغم ذلك تتنكرون له
وتأملون في عالم آخر ممكن
ومن غروركم
لا تطالبون بأنسنته أكثر
ولا بإحداث تنويعات داخله
ولا بالممكن
بل تسعون إلى قلبه
وإلى طرد الأغنياء منه
وطرد الشركات
وطرد الرفاه
والعودة بالإنسانية إلى بؤسها السابق
وإلى أفظع تجاربها
ثم تتساءلون
لماذا لا يصوت لنا الشعب
ولماذا لا تساندنا الجماهير
كما لو أنكم تظنون أنها مغفلة
وأنها لا ترى كم هي الحياة جميلة في أمريكا
وكم هي سيئة وقاسية في العالم الآخر الممكن.
حميد زيد