محمد أكديد*
بين الأمازيغ وآل البيت (ع) علاقة حب قديمة، ربما تكون قد بدأت حسبما يروي البعض1 عن بعثة من سبعةَ رجال من المغاربة الأمازيغ وفدوا على الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة بعد سماعهم بدعوة الإسلام، وهم ينشدون فاستجابت لهم شعاب الوادي بالأصداء، فقال أهل مكة ما هذه الرَّجْرجة، فقال رسول الله (ص): هؤلاء الرجراجيون جاءوا مسلمين. ولذلك يفخر أهل رجراجة نواحي الشياظمة بنسبتهم إلى هؤلاء الرجال كأول مبعوثين بايعوا الرسول (ص) وهو على قيد الحياة، وجاؤوا بالإسلام إلى هذه الأرض كما علمهم (ص).
لكن القصة لم تنته بعد، فمما يروى أن أئمة أهل البيت (ع) كانوا يتزوجون من بلاد الفرس والروم والديلم والأمازيغ لكسر شوكة العنصرية العربية. وقد كان الإمام جعفر بن محمد الصادق سادس أئمة الشيعة متزوج بامرأة أمازيغية إسمها حميدة، أبوها صاعد. وكان الإمام يمدحها ويصرح برضاه عنها، حيث يروي الكليني قوله عنها:"إن حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ومازالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلى كرامة الله تعالى لي وللحجة من بعدي"، كما روي عن الإمام الباقر (ع) قوله: "حميدة محمودة في الدنيا وفي الآخرة"، ومما زادها رفعة وسموا في عين الإمام الصادق أنها كانت أما لوريث سره الإمام السابع عند الشيعة الإثني عشرية موسى بن جعفر الكاظم (ع).
من جهة أخرى، فقد كان عدد من أئمة أهل البيت (ع) يرسلون الدعاة إلى أرض المغرب لنشر الإسلام والتعريف بقضية أهل البيت (ع) و مظلوميتهم. حيث يتحدث بعض المؤرخين كابن أبي زرعة عن إيفاد محمد النفس الزكية أخاه سليمان إلى المغرب لهذا الغرض، حيث دعا إلى الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بعد وفاة محمد النفس الزكية. كما يروى عن الإمام الصادق (ع) أيضا إرساله داعيتان إلى أرض المغرب اشتهرا باسمي الحلواني والسفياني. ويذكر المقريزي وصيته لهما قائلا: "إنكما تدخلان أرضا بورا لم تحرث قط فاحرثاها وذللاها حتى يأتي صاحب البذر ويضع حبه فيها".
هناك من يقدم داعية الفاطميين أبوعبد الله الشيعي2 كزارع البذر حيث انطلقت هذه الحركة من كتامة بالمغرب قبل أن ينقل المعز لدين الله الفاطمي عاصمة الدولة إلى مصر، وهناك من يرى بأن المقصود به هو المولى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عندما جاء لاجئا في رحلة طويلة رافقه فيها مولاه راشد3 الذي قاده إلى أرض المغرب، وذلك بعد موقعة فخ التي دارت رحاها بين العباسيين والشيعة في المشرق. حيث استقبله زعيم قبيلة أوربة إسحاق بن عبد الحميد الأوربي وتخلى له طوعا عن الإمارة سنة172ه، بل إنه قد زوجه ابنته كنزة التي ولدت له إدريس الثاني في الوقت الذي لم يكن يريد فيه إلا المأوى والأمن، حيث بايعته بعد ذلك الكثير من القبائل الأمازيغية القوية كمكناسة وزناتة ونفزة وغمارة وصنهاجة ليؤسس بذلك أول دولة علوية في المغرب غير تابعة للخلافة العباسية في المشرق. وقد طردت نفس هاته القبائل قبل ذلك ولاة الأمويين العنصريين وقاتلوا جيوشهم بكل ضراوة بعد أن تجاوزوا معهم حدود الدين والأدب، ووقفوا قبل ذلك في وجه جيش غزاة بني أمية اللذين لم يكن يهمهم نشر الإسلام كما يروجه التاريخ الرسمي بقدر ما كانت تهمهم غنائم الحرب وثروات البلدان المفتوحة.
وقد جاء في فضل إدريس ما ورد عن الإمام الرضا(ع): "إدريس بن عبد الله الكامل من شجعان أهل البيت وساداتهم ووجهائهم وله فضل كبير في نشر الدين والعلم في المغرب"4.
من جانب آخر، فقد كان الأمازيغ في بلاد المغرب يتابعون بشغف الحوادث والمعارك التي كانت تدور في المشرق خاصة بين أتباع أهل البيت (ع) وأعداءهم من الأمويين والعباسيين. وكان عبد الحميد الأوربي يقول: "والله لو أتاني واحد من أولاد فاطمة لفطمته وكرمته ولنزلت له عن كرسي مملكتي ولكنت له خادما"5.
وقد جاء في أخبار المؤرخين عن دعوة إدريس: "ولما دعا في المغرب عرفه رجال من أهل المغرب حجوا سنة قتل الفخي عليه السلام، فقالوا: نعم، هذا إدريس: رأيناه يقاتل وقد انصبغ قميصه دما، فقلنا من هذا؟ فقالوا: إدريس بن عبد الله"6.
وبعد استقراره في أرض المغرب وجه المولى إدريس نداءا للمغاربة، يرجع الفضل في نشره مؤخرا للمجاهد المغربي علال الفاسي وهو عبارة عن وثيقة نقلها عن مخطوط يمني، نورد أهم ما جاء فيه:
"وقد خانت جبابرة في الآفاق شرقا وغربا، وأظهروا الفساد وامتلأت الأرض ظلماً وجوراً. فليس للناس ملجأ ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء. فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور، وأنصار الكتاب والعثرة الصالحة، القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيين. فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين ونصر الله مع النبيين. واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم، وأنا المظلوم الملهوف، الطريد الشريد، الخائف الموتور الذي كثر واتره وقل ناصره، وقتل إخوته وأبوه وجده وأهله فأجيبوا داعي الله. فقد دعاكم إلى الله."
وهكذا فقد كانت الدولة الإدريسية بعد تأسيسها أول دولة في المغرب الأقصى تستقل عن الخلافة العباسية بالمشرق، حيث عملت على ترسيخ حب آل بيت النبي (ص) في ثقافة وعادات المجتمع المغربي، بل امتد هذا الولاء لآل البيت(ع) إلى خارج المغرب الأقصى كما حدث مع دولة الأدارسة الحموديين التي قامت بالأندلس، بالإضافة إلى تصحيح الكثير من الإنحرافات التي جاء بها الإسلام الأموي الغازي إلى أرض المغرب.
إن حب المغاربة لآل بيت الرسول (ص) هو الذي دفعهم لاستقبال حفيد الإمام علي (ع) المولى إدريس الأول ومبايعته بالإمارة وتسليم مقاليد الأمور إليه دون تعنت، وذلك بعد أن انقطع حبل الوصال بين المشرق والمغرب لمدة طويلة بعد ثورة برغواطة التي عصفت بالحكم الأموي المتعصب للعرب في أرض المغرب. وقد احتفظ الأمازيغ إلى يومنا بهذا الحب وهاته المودة الخالصة من كل شائبة أو مطمع، يتجلى ذلك من خلال تشريفهم للنسب العلوي، كما يتجلى في الكثير من طقوسهم وممارساتهم كتسمية مواليدهم بمحمد وعلي وفاطمة الزهراء والتوأمين بالحسن والحسين تيمنا بأسماء أهل البيت (ع). واتخاذ مظاهر الحزن في أيام عاشوراء التي استشهد فيها الإمام الحسين (ع) بالإضافة إلى تقاليد أخرى بقيت موروثة عن الدولة الإدريسية كتقليد أربعينية الميت و الإحتفال بذكرى المولد النبوي. ولا يشكك في في هاته العلاقة الفريدة إلا جاهل بتفاصيل هذا التاريخ الذي لعبت به أهواء بعض الحاقدين المتعصبين لجانب من التراث الذي صنعه فقهاء بني أمية وبني العباس ومن جاء بعدهم ليستمر على منوالهم للتعتيم على مدرسة أهل البيت (ع) في إطار الصراع الذي كان يدور بينهم وبين العلويين.
الهوامش:
1- ممن ذكر هذه القصة عبد الله الرجراجي السعيدي في كتابه "السيف المسلول فيمن أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول" والمختار السوسي في "المعسول" الجزء الثالث، ص: 7.
2- انظر دولة التشيع في المغرب للدكتور نجيب زبيب.
3 -هاته الشخصية الأمازيغية الفريدة الشديدة الولاء للعلويين كان لها الفضل في حماية المولى إدريس الأول ومساعدته وتنفيذ وصيته بالوقوف إلى جانب ابنه إدريس الثاني حتى يبلغ سن الرشد بعد أن اغتالته الأيادي الآثمة للعباسيين. انظر مقال "المغرب والتشيع..أية علاقة؟" للكاتب إدريس هاني. مجلة وجهة نظر العدد39 شتاء 2009.
4- المستشار عبد الحليم الجندي: الإمام جعفر الصادق، ص 160-161. ط 1397 جمهورية مصر العربية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. القاهرة.
5- ابن شهراشوب: مناقب أل أبي طالب، ص 147 ج2. 1992.دار الأضواء/بيروت.
6- حسن الأمين: دائرة المعارف الإسلامية، ص7ج1،دار التعارف/بيروت.
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية