تراهم يبجّلون التراث، ويهيبون بالحفاظ عليه، لأنه هو بطاقةُ هويتنا، وبه نفخر ثم ضَلَّ وكفر كلّ مَن أراد مراجعة هذا التراث، مراجعةً علميةً، كما فعل الأوربيون تنفيذا لفلسفة [ديكارت]، ومنهج [الشك] الذي أبدعه، قاموا بحملة مغرضة ضدّه، فإمّا اتهموه بالردة فقتلوه مثل ما حدث للكاتب [مصطفى جحا] بعد نشره لكتابه القيّم: [محنة العقل في الإسلام]؛ ومثْل ما حدث للدكتور [طه حسين] الذي اعتمد [منهج الشك الديكارتي] فنادوا بقتله، لأنه اعتمد [الشك] في النظر إلى الأدب والتراث، ونسوا أن [الشك] منهجٌ عقلي [أفلا تعقلون]؛ فيما [الشكوك] جمعُ [شكّ] هي مرض نفسي.. أهْل الرِّجعة يدافعون بدعوى الدين، والحفاظ على التراث، عن تخلُّف الأمّة، وجهْلها، وضرْب العقل، وشَلِّ الملكات.. وكذا قدّسوا التراث، وبجّلوا الأسلاف، فعن ماذا دافعوا في هذا التراث؟ دافعوا عن رضاع الكبير؛ وعن مضاجعة المرأة الميّتة؛ وعن مغتصب الصبية لا يُحدّ؛ وعن توافُق رجل وامرأة فعِشْرة ما بينهما ثلاث ليالٍ؛ وعن أكل لحم الميت؛ هذا على المستوى الأخلاقي والديني، بهدف ضرْب الحياء والقيم..
ثم جاءت الفتنة الكبرى الثانية في تاريخ الإسلام، وهي [الربيع العربي]، فوُظف التراثُ فيما أسموه [جهادا] (وحاشا ذلك)؛ فصار إحراقُ الناس أحياء تمشيًا مع ما رُوِي كذبًا عن النبي الكريم، أنه أحمى مسامير في النار، وكحّل بها أعيُـنَ بعضهم، ثم قطّع أرجلهم وأيديَهم، وتركهم بالحَرّة، يُسْتَسقَوْن فلا يُسْقَون حتى ماتوا؛ وتمشّيا مع عمل [عليٍّ] كرّم الله وجهه الذي أحرق نفرًا من الناس بالنار، أضِفْ إلى ذلك جواز قتْل المسلمين من نساء وأطفال، وكانوا يوصون بذلك في خُطَب الجمعة، كما يباح قتلُ المصلّين في دُور العبادة، مع اعتبار المفجِّر لنفسه والغادر [شهيدًا]؛ كما لا ننسى [جهادَ النّكاح]، لأن (جهاد المرأة، هو أن تمتّع الآخرين) كما هو ثابتٌ بالنص في التراث.. وهكذا، فبعد الفِسْق الذي صار تشريعا؛ وبعد الإرهاب الذي صار [جهادًا]، جاء وقتُ المقدّسات وقد رأينا كيف يدعِّم هذا التراثُ موقفَ أعداء الأمّة بخصوص (المسجد الأقصى) والآن سنرى تضارُب التراث بخصوص (الإسراء) وهو ما يلوذ به الصهاينة لتبرير ظلمهم؛ كيف ذلك؟
قبْل البداية، أقدّم نصيحةً للقارئ أنه إذا كان من عشّاق مهرجانات (العود) و(الضحك)، و(کناوة)، و(العيطة)، وقسْ على ذلك، فخيرٌ له ألا يقرأ هذه المقالات؛ فهي لن تفيده، ولم تُكْتبْ لأمثاله.. هذه مقالاتٌ، قضيتُ في البحث عن موادّها الليالي الطِّوال، خدمة للمواطنين الأحرار، وللمغاربة الأبرار، وللمسلمين الصادقين، ثم اِعْرفِ الحقَّ، تعْرف أهلَه؛ والله المستعان، ومنه الأجر والإحسان.. جاء في كتاب [جامع البيان عن تأويل القرآن]، (للطبري) جزء: (15)؛ صفحة (16): [.. وقال آخرون، بل أُسْريَ بروحه، ولم يُسْرَ بجسده.. كان (معاوية) إذا سئِلَ عن مسرى رسول الله قال: كانت رؤية من الله.. وكانت (عائشة) تقول: ما فُقِدَ جسدُ رسول لله، ولكنْ أسرى الله بروحه..].. الإسراء كان في مكّة، وما دخْلُ (عائشة) هنا وتقويلها كذبًا ما لمْ تشهدْه بأمّ عينها؟ فهي لم تكنْ قد وُلدت بعد، إذا صدّقْنا كذبة أن النبي الكريم قد بنى بها وهي صبية بنت تسع سنين؛ وهم يدافعون عن هذه الفرية ليغتصبوا الطفلات بنات الفقراء، وقد دلّل الباحثون على كذب هذه الرواية، وكان الحق مع (آل البيت) الذين ينفون ذلك في حق جدّهم عليه السلام.
وفي كتاب [تهذيب الآثار] (ابن عباس) جزء: (01)؛ صفحة (447): [كانت عائشة تقول: ما فُقِد جسدُ رسول الله، ولكنّ الله أسرى بروحه.. وقال (حذيفة بن اليمان) منكرا أن يكون رسول الله صلّى في المسجد الأقصى، ويحْلف على ذلك؛ وهذا (معاوية وعائشة) يذْكران أنّ مسرى الرسول من مكّة إلى المسجد الأقصى، إنما كان مسرى روحه، دون جسده؛ وأن الذي رُوِيَ عن النبي من أخباره عمّا عاين من الأنبياء، إنما كان ذلك رؤيا نوم، لا رؤيا يقظة].. وجاء في [شرح البخاري] (لابن بطّال)؛ جزء: (10)؛ صفحة: (773): [عن ابن فرات، عن الحسن قال: عُرِجَ بروح النبي، وأما جسده فكان في الأرض؛ وهو قوْل (محمد بن إسحاق) صاحب السِّيَر؛ ومن حُجّة الذين قالوا ذلك: قوْل (أنس) في حديث الإسراء قال: حين أُسرِيَ به، جاء ثلاثة نفر وهو نائم في المسجد الحرام؛ حتى أتوه ليلة أخرى في ما يرى قلبُه وتنام عينُه؛ فذكَر النومَ في أول الحديث، أو قال في آخره: فاستيقظ وهو في المسجد الحرام]؛ ويعلِّق المرجعُ قائلا: وهذا بيّـنٌ لا إشكال فيه، وإلى هذا ذهب البخاري.. جاء في [تفسير القرطبي]؛ جزء (10)؛ صفحة: (202): [هل كان الإسراء بروحه أم بجسده؟ لقد اختلف في ذلك السلفُ والخلفُ؛ فذهبت طائفةٌ إلى أنه إسراءٌ بالروح، ولم يفارقْ شخصُه مضجعَه؛ وإنما رؤيا، وذهب إلى هذا (معاوية) و(عائشة)]..