عندما خرج التقرير الأخير لمنظمة هيومن رايتس ووتش حول وضعية حقوق الإنسان في المغرب، تكالبت عليه رؤوس المواقع الفتنوية وتداخلت حدود المطامع بعضها في بعض وتَخطَّفَته أقلام مرتزقة الحقوق الذين أصبحت مثل هذه التقارير تمثل لهم خمرة الروح التي ترقص لها أحشائهم ويسيل لحُبابِها لعابهم، وفرصة لتفريغ ما في النفس من أحقاد وأهواء.
طبعا تقارير منظمات دولية مثل هيومن رايتس ومنظمة العفو الدولية و مراسلون بلا حدود هي تقارير آلية أتوماتيكية لا تأخذ في الاعتبار المبررات الذاتية والحدود الأيديولوجية و أوضاع الفوضى ونزعات الانفصال التي تحدو معتقلي أحداث الحسيمة، كما أنها تمنح لنفسها الحق في إبداء رأيها في شأن داخلي لدولة ذات سيادة وطنية وقضاء مستقل.
كما أن هذه التقارير لا تتناول بالنقد إلا الدول التي صانت نفسها من تبعات وعواقب الخراب الذي حل بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بحيث لم تعد تقاريرها تتناول أوضاع حقوق الإنسان في سوريا مثلا باعتبار أنه لم يعد هناك إنسان من الأصل في تلك المقبرة الجماعية التي كانت دولة في يوم من الأيام وأصبحت مختبرا للجهادية والحروب بالوكالة.
ورغم أن المنظمة على لسان سارة ويتسن قد اعترفت بالفعل بأن "هناك مساحات للتعبير عن المعارضة في المغرب" وجاءت الانتقادات الموجهة للمغرب في سياق محافظة الدولة على أمنها واستقرارها بالوسائل المدنية وفِي إطار احترام مُشَرّف لمقتضيات القانون وتقدير تام لكرامة الإنسان، فإن مواقع مغرضة ومُمَالِئة للمشروعات الخرائبية -مثل موقع لكم وموقع جماعة العدل والإحسان وغيرهما- تواضعت على عنونة واحدة للتقرير وكأن أحدا بعينه كان يملي تلك العناوين على ذات المواقع بنفس الصيغة والأسلوب من نوع:" الاحتجاجات تفضح سياسة الخطوط الحمراء".
والحقيقة أن تلك الإجراءات القانونية والاحترازية المعبر عنها في التقرير ب"الخطوط الحمراء"، هي وحدها التي حمت المغرب من مصائر دول الخراب العربي، وهي التي فضحت أغراض دعاة الفوضى الدموية في مغرب الأمن والاطمئنان، فأولى بالخطوط الحمراء أن تصون البلد من أنهار من الدماء الحمراء وتلال من الأشلاء البتراء.
وإن المرء ليعتريه الحقد ويأكل قلبه حتى يغفل أهم مقومات حياته وهو الأمن والأمان على النفس والأهل والمال، باعتبارها أنفس ذخائره فيجعلها في أخس الأمكنة وأهون المنازل، وهو لا مذهب له إن هو أفْلَت تلك النعم إلا مذهب القدر المجهول.
في هذا السياق سمع الناس المؤتمرين في مسرح محمد الخامس وهم يرددون:" هي كلمة واحدة هاد الدولة فاسدة"، طبعا فدرالية اليسار لا يمكن وصفها بالعدمية، لكن مثل هذه الشعارات التعميمية الشعبوية لا تخدم أجندة الإصلاح ولا تصب إلا في قنوات الجرف والتهديم الذي يخدم نهج قوى الظلام المتربصة، ولينظر أهل الفيدرالية في خريطة العالم العربي هل بقي لليسار وجود إلا في المغرب وتونس، وليسألوا أنفسهم لماذا فنيت بذرتهم هناك وازدهرت هنا؟ هل ينظرون إلا أن يغلق المخزن مقارهم ويجرم التظاهر على خطى مصر ويلاحق الفلتات والهمسات والهمهمات بالإعدامات والمؤبدات حتى يستحق الأوصاف القدحية المجحفة والمنافية لروح الانصاف وواقع الحال؟
لا تلقي مثل تلك المنظمات الدولية كثيرا من الاهتمام لطبيعة الأحداث في الريف ومن يحركها وراء ستار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي غدت دثارا تتوارى خلفه قوى انفصالية، لها مشروع وخطط مبيتة لإسقاط النظام العام في المغرب، وإقامة دويلات عرقية ودينية على أنقاضه، ليس في حسبان تلك المنظمات أنها حين تتجرأ عَلى الدولة المغربية وترخي العنان لتوصيفاتها المجحفة في حق المعتقلين الفتنويين وتدافع عن الزفازفة والعمارشة؛ إنما هي كالذي يدافع عن حق أيمن الظواهري وأبوبكر البغدادي في ممارسة حريتهم في الإرهاب البربري الإسلاموي.
نلاحظ مثلا أن البرنامج الأسبوعي النموذجي في الشرق الأوسط طيلة العقد الأخير يمكن وصفه كالآتي: تفجيرات يومية في بغداد مقتل العشرات في سيناء، جهاديون يقتحمون سجنا ويحررون إرهابيين كبارا في البحرين، داعش تقصف مروحية عراقية، حرب عصابات وذبح الأقباط أمام كنائسهم في واضحة النهار بالقاهرة، وأكثر من عشرة آلاف لاجئ هجروا من الموصل وملايين السوريين يشحذون الخبز في مخيمات اللاجئين التركية، كل هذا في أسبوع واحد من أسابيع الشرق الأوسط.
إن هذا الوضع الكارثي جعل الكاتبجون ألترمان في مقال نشرته مجلة أتلانتيك يتساءل هل كان خطأ مبارك أنه كان مستبدا أم أنه لم يكن مستبدا بما فيه الكفاية ليحول دون المجازر التي أعقبت تنحيه عن الحكم؟ ولعل السؤال الأمثل ليس متى يكون الاستبداد حقا ومتى يكون باطلا؛ ولكن متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها؟، لأن الاستبداد كما يكون في الحاكم يكون في المحكوم، وربما يكون البديل في حال العرب أقوى قهرا وأبعد جورا.
المغرب الرسمي كنظام حكمليس هو مصر العسكريين أو ليبيا الإسلامويين أو سوريا الأسد أو عراق الملالي أو سعودية القبيلة أو قطر موزة…ولا يقارن بهم على وجه الإطلاق في أسلوب الحكم وازدهار الحريات السياسية والفردية وتطور الحياة المدنية والأريحية في المعارضة و إبداء الرأي، بحيث جعل الغرب يصنف المغرب في مصاف الدول الانتقالية نحو الديموقراطية وعلى خطى الملكيات الأوروبية.
في مقال لمجلة The Christian Science Monitor نشر مطلع هذا الشهر، تحدث فيه الصحفي الإسباني دافيدألفارادو(مقيم في المغرب منذ2003 )عن حرية التعبير في المغرب وقال بالحرف إننا في المغرب نعيش في دولة ديموقراطية، لكن في نفس المقال تشير المجلة إلى تصريحات البيزنسمان أبوبكر الجامعي- الصحفي الذي أخذ زخرفه وازَّيَّن واهتز وربى بعد علاقاته المشبوهة مع أطراف معلومة خارج المغرب، حتى بات يتقلد عمادة إحدى مدارس البيزنيس و العلاقات الدولية في باريس- يدعي أن المغرب بتضييقه على الصحافة فإنه يدفع المغاربة إلى اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
طبعا هذه الأخبار التي يستقيها الناس من فايسبوك تكون على شاكلة الطفل الهندي الذي بقدرة قادر انتقل من شبه الجزيرة الهندية ليلتقم ثدي كلبة في ضواحي تيزنيت، أو أخبار وأسمارالمأفون تشفين بلقزيز الذي يتقيأ فحشه على اليوتوب بعد تجرعه لبعض كؤوس الجعة، والعجيب أن المقال نفسه ذكر أن الصحفي الإسباني المذكور أصدر كتابا الشهر الماضي حول الاحتجاجات في الريف وقدم مراسلاته من أحضان جبال الريف دون أن يتعرض له أحد.
لكن الجامعي وأضرابه لا يلقون بالا لما تؤدي إليه الإشاعات والأخبار الزائفة والصور الملفقة التي تُستجلب من بؤر الذبح والإرهاب في سوريا والعراق ويتم نسبتها إلى مناطق في المغرب، وما دام هو في أوروبا فلا شك أنه يعلم بالإجراءات والتدابير التي بدأت تتخذها ألمانيا وفرنسا لمراقبة المحتوى الإعلامي، واللجان القانونية والإلكترونية الأوروبية التي تأسست للتصدي إلى ما بات يعرف بحرب الأخبار الكاذبة، كما أنها أجبرت فايسبوك نفسه على اتخاذ تدابير فنية ومعايير تحذيرية منها وضع الشارات على أخبار يعتقد أنها زائفة.
أوروبا نهضت لمثل هذه الإجراءات الاحترازية عندما أحست بأن وحدة دول الاتحاد باتت مهددة بالانفصال والتشرذم الذي تغذيه قنوات ولجان إلكترونية روسية متحالفة مع أحزاب اليمين المتطرف، لكن الجامعي ليس بدافع تقواه وورعه يدافع عن الصحافةو المصلحة العامة، ولكن بدافع خسارته لمشروعه الإعلامي في المغرب الذي لا زال يلقي بتبعاته على الدولة.
أما في ما يخصالمغرب الشعبي فهو لا يختلف كثيرا عن نفسية شعوب الشرق الأوسط وتتجاذبه نفس التيارات التي سعت في خراب تلك الدول ودخولها في نسق دائري مغلق من العنف والإرهاب الذي لا تبدو له نهاية في المدى القريب والمتوسط،مما يتطلب دعم التيارات المدنية للسلطة الملكية المُوازِنة، وتعزيز الديموقراطية النِّسبية والملكية القوية بحيث كلما دفعت قوى الظلام-سواء القوى التي تعمل داخل المؤسسات أو تلك المارقة- نحو أهدافها الاستراتيجية وغاياتها الشمولية أعادت المَلَكِيّة النِّصاب بقوة المُلْك إلى ميزان الاعتدال، فهي الميناء و المنار عند تدافع أمواج الظلام على ساحل الموت، أما الديموقراطية المطلقة فلا تقوم حاليا لهذا في معركة تسيطر عليها غابة من سيقان الجهاد.
فالقوى المنظمة في المجتمع والخلايا النشطةذات الأيديولجيا تسيطر عليها أفكار إسلاموية ظلامية حاملة لقضايا ذات قيمة سلبية تعمل على تفكيك البنى الاجتماعية وإضعاف اللحمة الوطنية والمثل التاريخية وخلط الأوراق والدفع بالمجتمع نحو الاحتقان بنفس ثورجي فوضوي، ويقوم ركن فلسفتها على اعتبار الأزمات الإجتماعية والاحتجاجات المحلية العفوية فرصا سانحة للدّس والتّدسُّس وسط الحصيص المتجمهر بشهوة الغابة وغريزة الإبادة وعقلية الصيد والصائد، فَلَو قلت إن في جِلْدة أولئك الديموقراطيين والحقوقيين معنى الحمار لما كان في قوى الإسلاموية إلا معنى العصا التي تسوقه في طرق مصائبه وهلاك حاضره ومستقبله، صحيح أن المحتج والثائر يملك اللسان والعقيرة؛ لكن الإسلاموي يملك العصا في نهاية المطاف، وعند العصا تفرغ حيلة الحمار ولو كان له ألف لسان.
طه لمخير