تمر الشهور ولا ينسى سكان جنين أن قوات الجيش الإسرائيلي يمكن أن تمر بأي لحظة في أزقة المخيم ودهاليزه الضيقة لشن عمل عسكري بينهم، كذلك يمر جنود النخبة من الوحدات الخاصة الإسرائيلية وهم مدركون جيدًا أن المهمة في جنين هي المهمة الأصعب.
واحدة من تلك العمليات وقعت أول أمس حين عاش المخيم وتحديدًا منطقة وادي برقين ليلة مرعبة، أفزع فيها أزيز الرصاص والتفجيرات الصغار، فيما أدركت النساء والرجال أن المكان هو هدف لعملية عسكرية إسرائيلية جديدة، وأن الاشتباك بسبب صلابة من يستهدف القوات الإسرائيلية سيطول، وبالفعل انتهى بعد 10 ساعات، حقق فيها الجيش الإسرائيلي «ربع الهدف المنشود» من العملية كما وصف الحال الإعلام الإسرائيلي، لتصفع هذه المنطقة من جديد إسرائيل بفشل أمني، وإخفاق استخباري.
جنين وليلة حامية على وقع أزيز الرصاص
سجلت الانتفاضة الفلسطينية في التاسع من يناير (كانون الثاني) الماضي عملية نوعية تميزت بالدقة والسرعة ونجم عنها قتل حاخامًا من مستوطنة (جلعاد)، يدعى «ريئيل شباح»، حدثت تلك العملية على طريق تل–صرة قرب مدينة نابلس الواقعة شمال الضفة الغربية، فأطلق عليها «عملية نابلس».
وفيما انسحب منفذو العملية الفلسطينيين بسلام، اندفعت القوات الإسرائيلية نحو عمليات البحث عن أي طرف خيط يقودها لفك لغز: أين ذهب المنفذون؟، صادرت عناصر الاستخبارات الإسرائيلية كاميرات المراقبة الفلسطينية الموجودة في المحال التجارية والمنازل، وخاضت العشرات من العمليات الخاصة في مختلف مدن وقرى شمال الضفة الغربية، وخلال رحلة البحث وجدت قوات الأمن الإسرائيلية سيارة محروقة بين كروم الزيتون قرب الجامعة العربية – الأمريكية، في محيط بلدة قباطية جنوب جنين.
وعلى الرغم من بعد تلك السيارة عن مكان العملية، تتبعت القوات الإسرائيلية خط سيرها، فبدأت بالبحث جنوبًا في الضفة، ثم حولت البحث نحو الشمال أكثر، فخاضت حملة لمصادرة تسجيل الكاميرات في المنطقة الواقعة بين قباطية وصولا لليامون غربًا، فمدينة جنين، حتى وصلت لمربع محدد جغرافيًا.
حسب صحيفة «يديعوت أحرنوت» الإسرائيلية استفادت السلطات الإسرائيلية «من تسجيلات الكاميرات المنتشرة على طول الطرق والشوارع الواصلة بين مدينتي نابلس وجنين في التوصل إلى منفذي عملية نابلس»، وكذلك قدر «جهاز الشاباك أن المنفذين فرّوا شمالًا إلى منطقة جنين، ولم يختاروا الخيار الأقرب لـ(حفات جلعاد) قرب نابلس، لكن عندما تم توسيع عمليات البحث عن مكان المنفذين وردت معلومات بالعثور على سيارة في جنين يشتبه بأنها تابعة لأفراد الخلية الذين نفّذوا العملية»، إذ اتضح أن خط الانسحاب للمنفذين كان غير تقليدي وطويل جدًا، بحكم أن المسافة بين قباطية، جنين، مثلث الشهداء، برقة، دير شرف التي تزيد على 60 كلم، فيما تبلغ المسافة بين أول بلدة تتبع جنين في الطريق ما بين المنطقة الغربية من نابلس وجنين 18 كلم.
قوات إسرائيلية خلال اقتحام جنين (المصدر: موقع عرب 48)
وفيما حدد المربع سابق الذكر، سارعت القوات الإسرائيلية أول أمس لاقتحام جنين، من أربعة مواقع مختلفة، فبدأت بمحاصرة منزل المقاتل القسامي الراحل «نصر جرار» مستهدفة ابنه «أحمد» المنفذ الرئيس لعملية نابلس حسب إسرائيل، وقامت تلك القوات باستهداف المنزل الواقع في حي برقين بالأعيرة النارية والقذائف، ثم تم تفجيره وهدمه بالجرافات العسكرية، واستبسل الفلسطينيون لأكثر من 10 ساعات حتى أصابوا جنديين من الجيش الإسرائيلي.
وأشارت المصادر الإسرائيلية إلى أن الخلية تضم ما بين ثلاثة إلى خمسة عناصر، وقد فشلت إسرائيل في مفاجأة الخلية وقتل أو اعتقال كل أعضائها، فحسب القناة الإسرائيلية الثانية إن: «أحد الأعضاء المركزيين في الخلية التي نفذت عملية نابلس، لم يلق القبض عليه بعد، ويحتمل أن يكون تحت أنقاض أحد المنازل التي دمرها الجيش خلال عملية الاقتحام لمدينة جنين، أو أنه استطاع الإفلات من المكان».
يذكر أنه قبيل العملية ببضع ساعات أعلن الاحتلال عن فشله في الوصول لأي معلومات حول منفذي العملية، وهو أسلوب يتبعه «الشاباك» يقوم على نشر شائعات حول العملية، كإعلانه اسم تنظيم ما المسؤولية عن الهجوم، لدفع الفصيل المنفذ لإصدار بيان مضاد، أو يقوم بنشر إشاعة عبر مواقع عبرية تفيد باعتقال المنفذين لاستدراجهم.
في جنين إسرائيل تحقق «ربع الهدف المنشود»
«على الرغم من امتلاكنا معلومات كافية عن هوية المنفذين، إلا أن الجيش والأجهزة الأمنية لا تمتلك الصورة الكاملة، ولكن من الواضح أننا أحدثنا ضررًا للخلية المسؤولة عن الحادث، وهذا حدث لم نشهده منذ وقت طويل»، جزء مما قاله وزير (الدفاع) الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان تعقيبًا على عملية نابلس، وأضاف: «الخلية العاملة في جنين هي خلية منظمة وتمتلك بنية تحتية قوية، لكن الجيش سوف يغلق الدائرة عليهم».
يقرأ المحللون الإسرائيليون في استمرار العملية لساعات طويلة، وإصابة بعض الجنود الإسرائيليين إصابات خطرة، وعدم الإعلان الواضح عن تفاصيلها فشلًا أمنيًا أجبر إسرائيل على إنهاء العملية دون تحقيق أهدافها في الوصول لأفراد الخلية، إذ إن نتائج العملية التي أخرجت لها إسرائيل وحدة «يمام» المختارة لمكافحة (الإرهاب)، لا ترتقي لربع الهدف المنشود من العملية، فحسب تلك المصادر اثنين – على الأقل – من منفذي العملية لا يزالون طلقاء، بينهم المنفذ الرئيسي عن عملية نابلس، وهو «أحمد نصر جرار»، فيما اشتبك مع هذه الوحدة «أحمد إسماعيل جرار» الذي اعتبرته إسرائيل متعاونًا مع الخلية وليس منفذًا.
وتخرج عملية نابلس الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي إلى العلن، فقد نفذت تلك العملية في مكان خطر يفترض أن تكون عين إسرائيل واسعة عليه كونه يمتد من نابلس حتى قلقيلية، ويقطعها شارع يقع عليه ما يزيد على 40 قرية فلسطينية وأكثر من 10 مستوطنات إسرائيلية، وحسب المحلل السياسي «ساري عرابي» فإن الفشل الذريع: «لا يتوقف عند عجز دولة مدججة بالجنود والمعدات الحربية وأدوات المراقبة، على تعقب خلية من بضع أفرد واعتقالها؛ بل أساسًا في تمكن هذه الخلية من الانسحاب والاختفاء حتى الليلة، في واقع لا يوجد فيه أمنيًا ولوجستيًا وجغرافيا ما يمكن أن يخدم أي عمل مقاوم».
الشاب أحمد نصر جرار الذي تتهمه إسرائيل بتنفيذ عملية نابلس (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
ويضيف «عرابي»: «واقع العمل المقاوم في الضفة معقد وبالغ الصعوبة، وإمكانية الانسحاب والاختفاء وتضليل العدو مسألة بالغة الصعوبة، ليس فقط بسبب كاميرات الفلسطينيين، ولكن بسبب كاميرات إسرائيل عالية التقنية الموجودة على كل مفارق الطرق الالتفافية، بالإضافة لطول هذه الطرق، وكثرة نقاط الاحتلال عليها».
جنين.. الكابوس الأسوأ لإسرائيل
كان طالبًا في جامعة القدس المفتوحة، ويعمل في الزراعة وحفر الآبار، وكذلك يعمل سائق أجرة، من أجل أن يعيل أسرته، وبالرغم من حياته المشغولة دائمًا تلك أبى إلا أن يقاوم إسرائيل عسكريًا.
الشهيد أحمد إسماعيل جرار الذي سقط في عملية جنين (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
إنه «أحمد إسماعيل جرار»، الذي قتل في الاشتباك، ابن جنين وصاحب الواحد والثلاثين عامًا، فـالرجل المحبوب من محيطه الاجتماعي كان مستعدًا لأي مواجهة شرسة مع الجيش الإسرائيلي، فحين اكتشف كمين الوحدات الخاصة الإسرائيلية (الكوماندوز) أول أمس كان على أهبة الاستعداد، وباغتهم بفتح النار دون تردد حتى أصاب اثنين من كتيبة «يمام» المختصة باغتيال الفلسطينيين، بل أجبر الاحتلال على طلب المزيد من القوات لمواجهته، في حين لم يتمكن القوات الإسرائيلية من النيل منه إلا حين أطلق الصواريخ لتفجير المنزل.
نشأ أحمد في جنين، ذاك المخيم العصى على الاحتلال والذي شكل حالة فريدة في الصمود والتحدي، فقد ترجلت منه قيادات عسكرية فلسطينية سطرت تاريخًا كبيرًا في مقاومة إسرائيل، وكان مقرًا للمطاردين والمطلوبين الفلسطينيين لإسرائيل، لذلك شكل المخيم في «انتفاضة الأقصى»، هدفًا لإسرائيل في اقتحاماتها المتعددة، وقد شهد المخيم واحدة من أبرز المجازر في تاريخ المعركة مع الاحتلال، عرفت بـ«اجتياح جنين» الذي وقع في أبريل (نيسان) 2002، وخلف 58 قتيلًا، و200 جريح، ودمرت فيه 470 منزلاً تدميرًا كاملًا، حيث دفعت إسرائيل بالمئات الدبابات والآليات الثقيلة والمروحيات القتالية للمخيم، ودكته تلك الآليات على مدار عدة أيام بالصواريخ والقذائف ورصاص الرشاشات الثقيلة، ورغم حجم الاعتداءات الكبير في هذا الاجتياح إلا الإسرائيليين لن ينسوا أبدًا حادثة «الكمين الدامي»، الذي أسفر عن مقتل 14 جنديًا أرسلوا من وحدة «إيغوز» للقضاء على المقاومين المسلحين في جنين.
اجتياح جنين 2002
يقول أستاذ العلوم السياسية والإعلام في جامعة فلسطين التقنية (خضوري) «محمد اشتيوي» من طولكرم أن عدة عناصر لعبت دورًا مهمًا في تأجيج المقاومة في جنين، منها تأثر المواطن الفلسطيني هناك بتاريخ حافل وطويل من المقاومة عزز جذوة المقاومة التي لم تخبُ طوال العقود السابقة، ويضيف لـ«ساسة بوست»: «كان لها دور تاريخي، احتضنت الشيخ عز الدين القسام الذي استشهد في أحراش يعبد بجنين عام 1935، وكذلك لها دورها في حرب 1948 من خلال تواجد الجيش العراقي إلى جانب الفلسطينيين، وفي الانتفاضة الثانية كانت جنين عصية على الاحتلال خاصة في معركة مخيم جنين».
ويوضح «اشتيوي» أن القرب الجغرافي لجنين من مدن الداخل الفلسطيني كان عاملًا مساعدًا في تأجيج المقاومة وتسهيل مهماتها، وكذلك وجود جيل شاب في جنين تربى في بيوت المجاهدين الذين كان لهم رمزيتهم في الانتفاضة الثانية.
برغم التنسيق الأمني.. الضفة الغربية لا تنام عن المقاومة
وقعت في الضفة الغربية خلال العام الماضي 2017 أكثر من 50 عملية فدائية أسفرت عن مقتل 22 إسرائيلي، فيما أصيب 397 آخرين حسب المصادر الإسرائيلية، الأمر الذي يظهر نوعية في العمليات التي ينفذها الفلسطينيون، على مستوى التخطيط والأدوات المستخدمة وبنك الأهداف الإسرائيلية.
في الواقع، تعد تجارب مدينتي نابلس وجنين أكثر ما يخشاه الجيش الإسرائيلي في العمل المسلح المضاد له، إذ تشكل عملياتها تلك المناطق تحولًا في مزيد من الانخراط في انتفاضة القدس، ووقوع عمليات دراماتيكية متعددة كعملية نابلس، فقد وقعت هذه العملية مع استمرار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، والذي يهدف إلى منع العمليات المسلحة ضد الإسرائيليين والقضاء على وجه التحديد على العمل المسلح في الضفة الغربية، وهو ما يظهر أن تلك الجهود مع القبضة الإسرائيلية المحكمة لا تحول دون وقوع عمليات نوعية، وليظهر أن حركة المقاومة لإسرائيل تواصل تجنيد وتمويل خلايا مسلحة محلية في كل منطقة على حدة.
وتظهر أهم دلالات عملية نابلس بأن الضفة الغربية ما زالت قادرة على مواجهة إسرائيل وإيلامها عسكريًا عبر عمليات منظمة فردية أو تابعة لمجموعات مسلحة، وهي «مجموعات استطاعت التكيف مع الواقع المعقد ونفذت عملياتها بحرفية عالية، وهو ما يعني عملية نابلس التي كانت باكورة العمليات القوية خلال العام الجديد، سنكون أمام سلسلة مع «العمليات القوية»، كما يقول مدير مركز الدراسات الإقليمية في فلسطين «أيمن الرفاتي» ويضيف في مقاله «مقاومة الضفة المسلحة تواجه عقبات الاحتلال بنجاح»: «المقاومة في الضفة رغم التضييق والملاحقة والظروف شديدة الصعوبة ما زالت تتجاوز عقبات الاحتلال بنجاح وقد تتطور لتصبح أكثر وأقوى، العملية (نابلس) أكدت مرة أخرى أن دولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية مهما فعلت لا يمكنها أن تمنع روح المقاومة وأن تمنع المجموعات العسكرية من التشكل، وهذا دليل على فشل جميع الأساليب والمشاريع الهادفة لوأد المقاومة».