إذا كان هذا التراث الموبوء الذي لم يمرّ عبر [سكانير] العقل، ولم يراجَعْ مراجعةً علمية، ونقدية، أي مراجعة تراثية، قد جنى علينا، وكان هو الأصل في كل الكوارث والفواجع التي عرفتْها أمّتُنا فكريا، ودينيا، واجتماعيا، وسياسيا، فإن هذا التراث صار يوظَّف من طرف أعداء أمّة الإسلام، ليُضْفوا الشرعيةَ على بواطلهم، ومظالمهم.. فإذا كان هذا التراث قد اعتمدوه في إثارة الفتن، وتمزيق الأمّة، وتبرير الإرهاب، وإشاعة الفسق، وإباحة المناكر، من إحراق للناس وهم أحياء، وإباحة الزّنا بتسميته [جهاد النّكاح]، واعتماد التكفير بواسطة أحاديث ضعيفة، أو مقطوعة، أو مرفوعة، أو مكذوبة، أو موضوعة، أو مصنوعة، أو بروايات مفبركة كلها خدمت أعداءَ الأمّة، فإن هذا التراث قد وُظِّف كذلك في قضية القدس، ومن التراث وبالتراث ينفون الإسراءَ والمعراج، وينكرون وجودَ المسجد الأقصى، وبيت المقدس، وينكرون إسراءَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويأتون بالأدلّة من تراثنا الموبوء، والمكذوب، والمضطرب، الذي يعجّ بتضارُب الأقوال، حوْل صحّة المسجد الأقصى، وهو ما يفقِد الموضوعَ صحّتَه، وهو ما يحاضر الصهاينةُ يهودًا وعربًا بشأنه في كافة المنتديات، ويروِّجون له، ويؤكّدون صحة ما تدّعيه إسرائيل، وهو ما سيلمسه القارئُ من خلال الأمثلة التي سنسوقها من تراثنا الموبوء والمضطرب..
في هذه المقالة، سنتطرّق للمسجد الأقصى، وما جاء بشأنه في عدد من مراجع تراثنا، وهو ما يلوذ به الخصومُ من صهاينة يهود، وعرب، ومسيح، وملاحدة مغرضين؛ كيف ذلك؟ يقولون إنه كان هناك في الجزيرة العربية مسجدٌ كان يسمّى (المسجد الأقصى) في منطقة تُدْعى [الجُعْرانة] ما بين مكّةَ والمدينة، ويستندون في قولهم هذا إلى ما جاء في كتاب [المغازي] (للواقدي)؛ جزء: (02) صفحة (355)؛ وهذا (الواقدي) توفي في سنة (207 هجرية)، ويعتبره النقادُ من [الإخباريين الكذَبة].. يقول (الواقدي): [انتهى رسولُ الله إلى (الجُعْرانة) ليلة الخميس، وأقام بالجُعرانة (13) ليلة؛ فلمّا أراد الانصرافَ إلى المدينة، خرجَ من الجُعْرانة ليلا، فأحرم من (المسجد الأقصى) الذي تحت الوادي، بالعدْوة القصوى، وكان مُصلّى الرسول إذا كان بالجُعْرانة].. هل كان (الواقدي) هو الوحيدَ القائل بهذا؟ كلاّ؛ هناك آخرون..
جاء في كتاب: [سُبُل الهُدى والرّشاد في سيرة خير العباد] لصاحبه (الصّالحي الشّامي)؛ جزء: (05)؛ صفحة: (406)" [انتهى رسولُ الله إلى (الجُعْرانة)؛ فلمّا أراد الانصراف إلى المدينة، أحْرم بعُمْرة من (المسجد الأقصى) الذي تحت الوادي، بالعدوة القصوى، فدخل مكّة، فطاف وسعى ماشيا وحَلَق، ورجع إلى (الجُعْرانة) في ليلته، وكأنه كان بائتًا بها].. وفي كتاب: [صنف النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي] (لابن عبد الملك العاصمي): جزء: (02)؛ صفحة: (288) يقول: [والمعروف عند أهل السِّيَر، أن النبي انتهى إلى (الجُعْرانة) ليلة الخميس؛ فلمّا أراد الانصراف إلى المدينة، خرج ليلة الأربعاء، فأحرم بعمرة، ودخل مكّة]. ويضيف المرجع: [وفي تاريخ (الأزرقي عن مجاهد) أن محمّدا أحرم من الوادي؛ وأضاف أنه عند (الواقدي) أحْرم من (المسجد الأقصى) الذي تحتَ الوادي، بالعدْوة القُصوى من (الجُعْرانة)؛ و(الجُعْرانة) موضع بينه وبين (مكّة) [18] ميلاً، كما قال (الفاكهي)؛ وسُمِّيَ باسم امرأة تُلقّب (الجُعْرانة)، جرفها السيلُ، فوصل بها إلى هذا المكان، فسُمِّيَ باسمها]..
جاء أيضا في كتاب: [حواشي على تُحْفة المحتاج بشرح المنهاج]؛ جزء: (04)؛ صفحة: (50) قوله: [واعتمر النبي منها (أي الجُعْرانة)، ويضيف: قال (الواقدي) إن محمّدًا اعتمر منها (أي من المسجد الأقصى) الذي تحت الوادي، بالعدوة القصوى..].. ويعلّق الصهاينة وأعداءُ الأمّة قائلين: لعلّ هذا يفسّر قولَ القرآن: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، يعني (المسجد الأقصى) الذي كان موجودا في (الجُعْرانة)، وليس (المسجد الأقصى) الذي كان في (القدس).. وفي كتاب: [أخبار مكّة، وما جاء فيها من الآثار]؛ جزء: (02)؛ صفحة: (207) لصاحبه (الأزرقي) الذي توفي سنة (250) هجرية؛ جاء في هذا المرجع: [قال (محمّد ابن طارق): اتّفقتُ أنا و(مُجاهِد) بالجُعْرانة؛ فأخبرني بأنّ (المسجد الأقصى) الذي وراء الوادي، بالعدْوة القصوى، مُصلّى النبي؛ أما (المسجد الأدنى) فإنما بناه رجلٌ من (قُرَيش)]..