سوانح :
ليس في أوروبا الغربية والشرقية معا، ولا في أمريكا والبلدان الأسيوية البوذية والكونفيشوسية، والزرادشتية، والمزدكية، ولا أستراليا، ما يشين، وما يخدش العين، ويملؤها بالقذى والعوار، ويصيب العقل بالدوار.
ليس في حوائطها، وأزقتها، وحواريها، وشوارعها، وساحاتها، وحدائقها، ومتروات أنفاقها، تشوهات وقاذورات تتقزز لها الأنظار، وتتأفف منها الأفواه والأبصار، وتشيح عنها العيون، وتعصف الروائح الكريهة العطنة بالأنوف حد الرشح المرضي، والغثيان، والفوران العصبي.
بل فيها ما يبهج ويثير، ويملأ الوجدان والفؤاد بالرضا، ويشحن الروح بطلاوة الحب، والسكينة، والتوازن النفسي وسط الصخب اليومي، وبلذاذة الحياة، ومسرات المشاهدات للمسرح الآدمي الذي يجري فوقه الانسجام والتناسب، والنظام.
فالجمال في كل مكان، إذ تحرص البلديات، والمؤسسات العمومية والخاصة المختلفة، كل الحرص، على توفير الرفاه الجمالي، والرخاء الجلالي. تحرص على وجه مدنها وحواضرها وطرقها، والشرايين الجانبية التي تفضي إلى تلك الطرق بشكل هندسي عجيب، يضع النظافة والخضرة، والجداول، والبرك، في صدارة أسبقياته، ما يعني أن المسؤولين هناك –على اختلاف درجاتهم ومكانتهم، ومهماتهم – يفكرون – أولا بأول – في تثبيت وزرع ونشر الجمال في كل زاوية، وركن، ووهدة، وتل، وهضبة، وسهل، حتى يشعر المواطن والزائر أنه في فردوس أو ما يشبه الفردوس. ويحس عميقا بآدميته المحترمة، والمعتبرة، وبحقه في الاستمتاع بالطبيعة، والاستبضاع من مهندسي جمالها وهم يرسخون حضورها البهي الفاتن، بالاحتيال على استزراع الأشجار والورود، والمحميات الحيوانية والجيولوجية، والغدران المائية، والبحيرات الساحرة، والطيور المهداة أو المهاجرة أو المشتراة.
وعلى رغم النهوض العلمي والتكنولوجي الملموس والمحسوس، المرئي والمتعين الذي يفيد، ويسهل أغراض ومهام، وأشغال ومشاغل الساكنة، ويحقق لها المرامي والأهداف بإشباع انتظاراتها ماديا ومعنويا، فإن الدول أو القارات المذكورة، تولي –كما أسلفنا- العناية الفائقة للجمال، ما يعني أنها تضع مطالب وتطلعات المواطن الروحية والنفسية والصحية، والبيئية، في صلب وطليعة اهتماماتها وتخطيطاتها. ففي عصر رقمي تكنولوجي وسائطي مجنون، يأكل الوقت الأدمي أكلا، ويثير الأعصاب بشكل لم تعهده البشرية، يغدو –من اللازم اللازب- التفكير في إنسانية الإنسان أي في صبواته، وأشواقه، وسكينته، وروحه الظمأى إلى الحب والعطر والهواء والماء والنشيد. ومن ثم، حرصت الدول الراقية العاملة العالمة الناهضة العائشة في الحاضر بامتلاء، المشرئبة إلى المستقبل، بكل العدة الخطاطية، والنظامية المرتكزة على الدراسات العلمية، والإحصائيات الميدانية، وعلى استمزاج الآراء، واستقراء المعطيات والمؤشرات من الواقع البيئي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، والتكنولوجي. حرصت على أن تجمع بين الحُسْنَيَيْن، والرافديْن اللذين يغذيان ويصنعان الإنسان في دوامة الاكتشافات والاختراعات، واللهاث وراء ما يُرَغِّبُ في الإقامة على الكوكب الأزرق، ويشجع على البحث، وعن طرق وسبل إمداده بأسباب السعادة والرخاء، وهما : العلم النافع الحافظ لكرامة الإنسان، والجمال الرافع لإنسيته وآدميته، وحقه في أن يكون الحيوان السياسي الاجتماعي الأرقى بتعبير أرسطو، والكائن النوعي بتعبير ماركس، الذي يهتز للموسيقا العذبة، ويصدح مع الطير الصادح، ويتنشق العطر الناعم أو الفاغم، ويخفق قلبه عند رؤية امرأة حسناء، ويبكي لدى رؤية أطفال تمزقهم الحرب، وتطوح بهم الهجرة والهرب إلى أقاصي البرد والجوع والألم.
هي ذي أوروبا وأمريكا وآسيا وأستراليا، البلدان "الكافرة" برأي وهذيان فقهاء الظلام، هي ذي الأمم المشبعة علما وتقنية وحضارة، وثقافة وجمالا، وحقوقا، ونظاما وحياة. الأمم التي تخشى عليها دولها، ومسؤولوها، من التردي في وهدة الفقر والضياع، والأوساخ، والقاذورات، والجهل والأمية، والعيش المهتريء الحافي.
إنها دول ذهبت بعيدا في الضوء، وحققت ما لم يكن يحلم به الإنسان في القرون الخوالي، بَلْهَ حتى في عصر الأنوار، على رغم استعانته بالعقل والخيال الذي جَنَّحَه تجنيحا، فما حدس ما تحقق الآن، وما سيتحقق غدا. الضوء الذي تَحْتَفِنُه أوروبا، وأمريكا، وآسيا، وأستراليا، بكل أياديها، وكيانها، فتغمر به بلدانها ومواطنيها، وترش به بلدانا بعيدة. يتجلى، علاوة على الكشوف والإنجازات العلمية والرقمية والتكنولوجية المتعددة والمختلفة، في إغداق الأموال التي لا تحصى على مراكز الدراسات والأبحاث الاجتماعية والسياسية، والفكرية، والفلسفية، والاقتصادية، والبيئية. وتشجيع أدبائها ومفكريها وعلمائها بما توفر، وما تتيح لهم من زمن مقتطع، قصد البحث المرفود بالدعم المالي، والمصاحب بالسند اللوجستيكي. وتصليح وإعادة تصليح وترميم القصور القديمة، والأبراج التاريخية، والمتاحف الفنية، والقاعات الموسيقية والأوبرالية الهائلة، والحدائق العمومية والوطنية التي تزدهي بالشجر الزاهي المتنوع البديع، و الطيور من كل جنس، والورود والزهور الناظرة النَّضِرة في خَفَرٍ، المهتزة الأعطاف والأعناق، الراقصة عند كل نأمة ونسمة وبسمة. والمقابر النظيفة المهيبة المسوَّرَة بأشجار السَّرْو والسنديان والحور والصفصاف والأرز، وما لا نعرف. المحفوفة بيد الصون والرعاية والتشذيب، المغمورة بالورد والزقزقات والعطر الفواح، والسلوك المتمدن للساكنة والزوار في الأول والأخير.
هي ذي أوروبا وأمريكا وأستراليا، ودول آسيا، التي تقيم للكتاب والكتابة، للإبداع والمبدعين، للفكر والمفكرين، و الفلاسفة، سرادق من نور، وصالونات باذخة، وأعراسا فيها زفة ودفة إعلامية تجذب آلاف القراء والقارئات، والفضوليين، وتخبر بالكتب الجديدة، والمؤلفين والمؤلفات المتسابقين على جائزة ما، أوتوقيع كتاب ما.
ها هي، إذن، تُسَخِّرُ العلم والتكنولوجيا لخدمة الأدب والفن والغناء والموسيقا والمسرح، والكتاب الورقي. تسخر العلم ليسبح بآيات الجمال، وتحمل الناس على حب الخير والعدل والجمال والحق. تحمل الناس على محبة ومعانقة القيم المثلى الخالدة، وتحرضهم على الحب والقراءة، واستثمار الوقت " الفارغ "، الوقت "الثالث" بالعودة إلى الذات، وإشباع الروح العطشى إلى السكينة، والاسترخاء والجمال.
بينما لدينا وزراء "كبار"، وزراء جُوفٌ، خُلْوٌ من العلم والثقافة والجمال، يحرضون التلاميذ والتلميذات على كراهة الأدب والفن والفكر الإنساني، مقللين من دور الشعر والرواية والمسرح والسينما والموسيقا والفلسفة في الرقي بالمجتمع، وتحقيق التنمية المنشودة، كأن التنمية الشاملة والمستدامة يمكن أن تتحقق من دون ثقافة وأدب وفن وفكر؟. كأننا وصلنا إلى العالمية، وأصبحنا عضوا كامل العضوية في نادي مجتمع المعرفة. وكأن التكنولوجيا المتطورة جدا فاضت بين أيدينا، والآداب والعلوم الإنسانية والحقة، فاقت المنتظر، فأمسينا في خطر !؟
اتقوا الله في أنفسكم، وفي وطنكم، ويَمِّمُوا شطر أوروبا "الكافرة"، فالوقت يقطعنا إرباً، إرباً، والآخرون يبتعدون عنا فراسخ ضوئية .!
محمد بودويك.