منصف بندحمان
ترك ابن خلدون وماكيافيلي بصمة واضحة في مجال التنظير الاجتماعي والسياسي. فأفكارهما لا زالت نبراسا للحكام والشعوب، في الفهم ومعرفة كيفية تسيير دواليب الحكم، وأسرار توازنات الدول، وكيفية تعاقبها، أسباب نجاحها أو تقهقرها. لماذا أمم استطاعت الصمود والمقاومة في أسوأ الظروف، وأخرى انمحى وجودها بالكامل وطواها النسيان؟
إن ابن خلدون وماكيافيلي اشتغلا على مجال تاريخ الاجتماع والسياسة، جمعتهما روح واحدة، ومنهج موحد. ما السر في توافقهما وتقارب وجهات نظرهما رغم تباعد الأمكنة والأزمنة؟
هناك مجموعة من الخصائص جعلت الرجلين تحكمهما رؤية متناغمة
1 – تجربة في الحياة متشابهة
2- بيئة مختلفة وتقارب في الفكر
3- موقف معرفي موحد
تجربة في الحياة متشابهة
مرت حياة ابن خلدون في ظل دول منحطة ضعيفة، كما عاش ماكيافيلي في بداية النهضة، حيث تم القضاء على النهضة الايطالية، بعد أن داست جيوش أوروبا أرض إيطاليا وخربت معالمها.
لم يتمكن الرجلان معا من تحقيق طموحهما السياسي، انهارت الجمهورية الفلورنسية قبل أن يحقق ماكيافيلي مطمحه في الحكم، وعزل ابن خلدون وسجن وعذب وأخفق في جميع محاولاته-مع أمراء غرناطة-وانتهت كلها بالسجن أو بالطرد أو بالفرار.
قرر ماكيافيلي بعد أن أبعد عن السلطة أن يوجه السياسة عبر المشورة، وإسداء النصح للحكام. عبثا لم تلق دعوته اهتماما. كما أن ابن خلدون أخفق حين أراد تلقين أمراء غرناطة فن السياسة.
اهتم ماكيافيلي طوال حياته بالشؤون العسكرية، وألح على المسئولين بفلورنسا الاستغناء عن المرتزقة وتكوين جيوش وطنية. كما أن ابن خلدون كان يصل بين القبائل وله دراية بالشؤون العسكرية.
حين اقتنع ماكيافيلي بانتهاء دوره السياسي، تعاطى لدراسة التاريخ، فيما ودع ابن خلدون السياسة في فترة معينة من عمره، ووهب نفسه للتأليف ودراسة التاريخ والاجتماع.
اختلاف البيئة وتقارب الأفكار
ينتمي الرجلان إلى حضارتين متعارضتين. المعارف التي كانت في زمن ماكيافيلي، ليست هي معارف ابن خلدون نفسها.
بالنسبة لماكيافيلي، المفاهيم السياسية عنده هي حرية، قانون، دستور، التي ورثتها روما عن الإغريق. يفهمها ويوظفها بسهولة، هو سليل هذه الحضارة. هناك استمرارية تاريخية وفكرية ولغوية بين أرسطو وماكيافيلي، منعدمة في فكر ابن خلدون؛ فهو يترجم هاته المفاهيم إلى مفهوم الشرع، فتفقد أصالتها. كان ماكيافيلي يدعو إلى حرية الجمهورية ووحدة إيطاليا. بينما المثل الأعلى عند ابن خلدون هو الخلافة. لا يدرس كيفية إعادة بنائها، بل يدرس تطور الملك الطبيعي الهادف إلى الترف والسلطة.
يؤرخ ابن خلدون لجيل انقضى وصار إلى ركود الطبيعة وديمومتها. لذا يعتبر أحوال العمران المتسمة بالترف والمجد والأغلال والخراب، تغييرا طبيعيا. إنه ينفي إمكانية الإصلاح والتنبؤ بمستقبل أفضل، كما يحجم عن النصيحة، عكس ماكيافيلي الذي يصر على التوجيه والنصح.
مقولة ابن خلدون المأثورة: "قد يطول الهرم بدولة إذا انعدم المطالب، لكن الهرم لا ينقلب أبدا إلى انتعاش" تلخص قصوره الذي يناقض كل أفق استشرافي في تغيير محتمل. فالسياسة عنده خضوع لقوانين المجتمع لا معارضتها. من هنا كان دور العصبية حاسما في تحليلاته. إنها عنده قوة حيوانية غير خاضعة لإرادة الإنسان.
جاء ابن خلدون في نهاية حقبة من حقب التاريخ الإسلامي. فحصها بعد أن صارت قطعة هامدة. لم يعد أي أحد قادرا على أن يغير شيئا. فلا عجب إذا رآها خاضعة لأحكام الطبيعة.
الحظ في رأي ماكيافيلي يتحكم في نصف أعمالنا، بينما النصف الآخر تتحكم فيه إرادة البشر. قولته الشهيرة: "في كل عمل بشري لا شيء يضمن النتيجة، لكن لا شيء يمنع الإقدام" تلخص نظريته في السياسة. هو يرى كابن خلدون أن إصلاح الدولة بعد فساد أخلاقها صعب، لكنه لا يراه مستحيلا.
إن ابن خلدون ينفي إمكانية إحياء دولة بعد انقراضها، أو انتعاش حضارة شعب بعد انحطاطها. كما يرى أن العرب فقدوا كل عصبية تمكنهم من تأسيس دولة قوية جديدة.أما ماكيافيلي الذي شاهد حركة إحياء الفن القديم في ايطاليا، لم يكن في حاجة إلى تلك النظرية، بل أقحمها في تغير أشكال الدولة، ولم يجعلها تؤثر في مسار الحضارة.
موقف معرفي موحد
إن السبب العميق لقرابة ابن خلدون بماكيافيلي، رغم تعارض محيطهما الثقافي، هو رفضهما المبدئي للطوباويات. يقول ابن خلون: "أما المدينة الفاضلة والسياسة المدنية، فهي ما يكون عليه الفرد، ليستغني عن الحاكم رأسا". إنه يريد أن يدرس أحوال الفرد الذي لا يمكن أن يستغني عن الحاكم. يردد ماكيافيلي النغمة ذاتها في قوله: "إن الفرق بين حياتنا الواقعية والحياة المثالية شاسع، إلى حد أن من يترك الواقع ليتشبث بالواجب، يتعلم كيف يهلك لا كيف ينجو".
هناك خطوة ثانية هي استعمال الأدلة والبراهين المستعارة من أرسطو لدراسة الحياة الواقعية. إن المادة التي درسها الرجلان هي مجموع الأفعال البشرية الناتجة عن القوى الحيوانية، بعد أن نظمها العقل حسب الهدف الإنساني الأسمى. العمران عند ابن خلدون، والصيت عند ماكيافيلي. تلك مادة الرجلين، أما طبيعتها وقاعدتها فهي كونها نتيجة قوة الإرادة، قوة التأمل السياسية عندهما تسلط وهي أيضا استبداد وأبهة. هكذا نجد عندهما أن الإرادة البشرية تعبر عن ذاتها في الاقتدار. الاقتدار هو ملك ورهبة وأبهة.
اكتشف الرجلان أن الاقتدار يقتضي تقسيم المجتمع إلى فريقين فقط. إن الثنائية شرط ونتيجة عقلنة السياسة والحركة التاريخية. إذا لم نرتب المجتمع إلى فريقين متعارضين، تعذر علينا ترتيب المجتمع ترتيبا معقولا. هذا هو سبب اهتمام الرجلين بمسألة الحرب، لأن الحرب تنتهي دائما بمواجهة قوتين، وقوتين فقط. سر توافق الرجلين أنهما استطاعا وضع اليد على منطق اشتغال المجتمع المبني على الثنائية الضدية بين فريقين، واعتبرا أن المجتمع حلبة صراع وميدان التسلط والرهبة.
قيمة ماكيافيلي وابن خلدون ليست في كونهما أسسا علما جديدا فقط، بل أهميتهما أكثر في كونهما حددا بوضوح النطاق المعرفي الذي بدونه لا يمكن فهم السياسة، ولا التحدث عنها.
التقى ابن خلدون وماكيافيلي رغم تباعد مثلهما العليا في كونهما نبذا الطوباوية وفصلا الأخلاق عن التاريخ، ثم أعملا العقل في ترتيب وتحليل الأعمال المتولدة عن إرادة الإنسان الحيوانية.
لا نستطيع تجاوز موقف ابن خلدون إلا بتجاوز مجتمع العصبيات، ولا التخلص من الماكيافيلية إلا إذا تحررنا من المجتمع الذي يولد السياسة، أي حب التحكم في الناس.
وبعد، تلكم كانت خلاصة عن خصوصية تجربة الرجلين، مجال اشتغالهما، مناطق التوافق والتعارض بينهما، أسباب التقائهما في المنهج والرؤية رغم تباعد الأزمنة والاختلاف النسبي في التجربة والحياة. لقد كان أرسطو بمنطقه العلمي الصارم قدوة للرجلين ومنارة لهما، وظفاه بجرأة وجدارة، واستطاعا معا تشريح مجتمعهما تشريحا علميا دقيقا وصارما.
هل يمكن أن ننتصر في ظل الأوضاع العربية الحالية لرأي ابن خلدون، ونؤيد موقفه الذي يعتبر أن الأمة العربية الإسلامية بلغت هرمها ولن تنهض بالمطلق، أم نعتبر أن التاريخ دائما يولد المفاجئات، وأن الهرم سيتتبعه إحياء من جديد، وأن الأمم والشعوب، من حالة إلى حالة، نهوض وسقوط واضمحلال، ففورة وثورة وإعادة البناء والترميم، فمجد ورفعة ثم هبوط وهكذا دواليك؟
نحن في حاجة ماسة اليوم إلى قراءة أفكار المفكرين الكبار، أمثال ابن خلدون وماكيافيلي، لفهم تجربتنا، طبيعة المنحى الذي تعيشه أمتنا، الإمكانات العملية لتقليص الضرر اللاحق بأمتنا. الواقع لا يرتفع، لكن الرجال الأشداء والفاعلين، القادة والمفكرين الشجعان، قادرون على أن يفعلوا في التاريخ، أملا في عالم متغير مفتوح على احتمالات رأب الصدع، والخروج من النفق. المفكر بعلمه، والسياسي بسلطته، يحميان معا، إذا توفرت الإرادة والهمة، مستقبل مجتمعاتهما.