سألْنا الدكتور [زكي نجيب محمود] عمّا يراه في مكتبة تراثنا العربي من (نفائس) الكتب التي لا تقع تحت الحصر لكثرتها؛ فأجابنا قائلا: [.. فهذا كتاب في طبقات الشعراء؛ هذا في طبقات النُّحاة؛ وهذا في طبقات الأدباء؛ وهذا في طبقات الفقهاء؛ وهذا في طبقات المفسّرين؛ وهذا في طبقات الشافعية، أو في طبقات الحنابلة، وهلمّ جرا؛ فإذا بالعين تقع (على الدُّرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة؛ والضوء اللامع لأهل القرن التاسع؛ والكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة؛ وخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر؛ وسلكُ الدُّرر في القرن الثاني عشر؛ وحيلة البشر في القرن الثاني عشر).. ثم اجترار من اجترار؛ قلتُ لنفسي وأنا أقلّب النظر في منوّعات من (التراث)، لماذا لا أتفحّص مجلّدا أو مجلديْن من هذه (الكواكب والدُّرر) لترى ما يكتب (العلماءُ) الذين تؤرِّخ لهم هذه الكتبُ، فأخذتُ أستعرض ضُروبَ المؤلّفات وصنوف الأعمال التي جعلتْ أصحابَها (العلماء) استحقّوا أن تُفرَد لهم هذه التواريخ كلُّها، فلم أخرج إلا بما يؤيّد فكرةً عندي سابقة كنتُ حصّلتُها من انطباعات متناثرة على مر الزمن، وهي أن هناك هذه الألوفَ من المجلّدات التي لا تضيف حرفا واحدا جديدا؛ فهي شروح، وشروح للشروح.]..
قلتُ له: هل لك يا دكتور أن تعطينا أمثلةً من فضلك؟ أجاب: نعم؛ [لكني سأضعها مجموعات مجموعات؛ بل مجموعة منها تنتمي إلى أحد (العلماء) البارزين في عصرهم: (الإسعاد بشرح الإرشاد؛ الدُّرر اللّوامع بتحرير شرْح جمْع الجوامع؛ الفرائد في حلّ شرْح العقائد؛ الـمُسامَرة في شرْح الـمُسايَرة؛ حواشي على تفسير البيْضاوي؛ حواشي على حاشية شرْح التجريد؛ حواشي على التلويح؛ شرْح آداب البحث؛ شرْح على جمْع الجوامع؛ تعليق على الرّوضة؛ تعليق على المنهاج؛ الدُّر النظيم في أخبار موسى الكليم؛ شرْح الجُرومية؛ شرْح الجَزْرية؛ شرْح مقدمة الهِداية في علم الرواية؛ ثم ماذا؟ هذا رجلٌ خلّدوه لأنه حفِظ الشّاطبية، وسرد مرة النّسَب النبَوي طَرْدًا وعكْسًا؛ وهذا آخر خلّدوه، لأنه قرأ القرآن على فلان، وقرأ الشاطبية والرائية على فلان، وقرأ شرْح البهجة على فلان؛ وقرأ كتاب التِّبيان في آداب حمَلة القرآن لفلان؛ وقرأ السيرة النّبوية على فلان؛ ومُسْنَد الشافعي على فلان؛ وصحيح مسلم على فلان؛ وصحيح البخاري؛ وتلقّن من فلان؛ وفلان من المشايخ؛ وأَذِنوا له بالتلقين، وصار (عالما).] اُنظر كتاب [تجديد الفكر العربي] للدكتور (زكي نجيب محمود)؛ صفحة: (54)..
هؤلاء، هم الذين نُقَدّسهم، ومن قبورهم ما زالوا يتحكّمون في عقولنا، وهم رقود تحت اللُّحود، وأتباعهم في قضايانا بجَهْلهم يُفْتوننا، وقد عطّلوا ملكاتِنا، وبتُرَّهاتهم وسخافاتهم ملؤوا فراغاتِنا الذهنية والعقلية، وعقَرُوا فكرنا، واغتالوا إنسانيتنا.. كان هذا التراث الموبوء، هو الأصل في حملات الاستشراق التي مهّدتْ للحملات الاستعمارية، ومن خلال هذا التراث درسوا عقليتَنا، ونفسيتَنا، ومن بين هؤلاء المستشرقين نذكر كأمثلة: الصهيونيَيْن [مارْجيليوت، وغولد زُهَيْر].. والآن، بهذا التراث، مزّقوا أمّتَنا، حيث وجدوا فيه ما يصلح للإرهاب، والقتل، والتكفير، ونسْفِ دُور العبادة باسم الدين الإسلامي.. والآن، اهتدَوا في هذا التراث إلى ما يخدم أهدافَهم في فلسطين المحتلة، بل وجدوا فيه ما يساعدهم على سرقة القدس، وصاروا يأتوننا بالدلائل المصطنعة، والمكذوبة للتشكيك بأحقّيتنا في القدس، ويروّجون من تراثنا على أن المسجد الأقصى، لم يكنْ يوما في القدس؛ بل المسجد الأقصى كان بين مكّة والمدينة، والدليل على ذلك استقوه من هذا التراث الملغوم، وجُلّه مكذوب، ورواياته موضوعة.. وفي المقالات القادمة، سنوافيكم بحقائقَ صادمة، مع ذكْر المراجع التراثية، وعليكم أن تربطوا الأحزمة مسْبقًا، لأن ما ستقرؤونه سيكون صادما لا محالة، والمرجو المعذرة! إلى اللقاء غدًا إن شاء الله..