دعْنا نتحدث بعض الشيء عن التراث، نظرا لأهميته في تاريخ الأمم، ولخطورته على هذه الأمم، وقد التفتَ عدد كبير لهذا التراث، داعين لـِما أسموه [عودة تراثية]، وهم يعْنُون بهذا المصطلح عودةً لدراسة التراث دراسةً علميةً نقدية، وكانت دعواتهم هذه تمثل مغامرة خطيرة بسبب الإرهابيين، والدوغمائيين من رجال الدين، الذين يدّعون احتكارَ الحقيقة الدينية، وهم معادون لكافة الحقائق، أكانت سياسية، أو اجتماعية، بل منهم من ينْكر، بل يحذّر، لا بل يكفِّر من يؤمن حتى بالحقائق العلمية الثابتة، مثْل كُرَوية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، كما يكذّبون عمليةَ غزو القمر، إلى ما هنالك من حقائقَ علمية لا تحتمل الشك إطلاقا. هؤلاء عرّضوا مفكّرين للنفي: [عبد الرحمان بدوي]؛ وآخرين للتّكفير: [زكي نجيب محمود]؛ وآخرين للإهمال والارتياب في كتاباتهم: [عبد الله العروي]؛ وآخرين تم اغتيالهم: [حسَيْـن مُرْوة]، وآخرين مُنِعت كتبُهم من الطباعة [الطبيب تيزيني]؛ وآخرين حُوكِموا واختيرَ شهرُ رمضان عنوة لمحاكمتهم: [مصطفى محمود]؛ تُهْمتهم جميعا هي دعواتُهم لدراسة التراث، ولكنّ أعداءَهم أحاطوا التراثَ بالقدسية، حتى صار ما يقال في رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مساوئ جائزًا، لكن الأخطر هو أن تكذِّبَ الرّواة، لأنهم أقْدسُ من النبي عليه السلام، والدليل هو حرْصهم الدائم على كتُب [ابن تيمية، والطحاوي، وابن حنبل، والبخاري و… و…]؛ فكلهم صاروا أصحابَ قدسية، وما قالوه في شخص النبي عليه السلام، صادقٌ، ومقدّسٌ، يا لَلْخيبة!
فما حذّر منه هؤلاء المفكّرون الأجلاّء هو ما نعيشه اليوم، وكانت مرجعيتُه هي التراث غير المدروس، وغير المنقَّح، ومن بَطنه خرج الإرهاب، وبرزت الفتنةُ، وشاعت الفتاوى الهدّامة، واكتستْ طابعَ الحقيقة المطلقة، وجُذِبَ العقلُ العربي إلى الخلف، وهو ما يسمّيه المفكّر: [برهان غَلْيون] [اغتيال العقل]، وهو عنوان لكتاب له صدر سنة [2012] الطبعة السادسة.. يقول المفكّر السوري المعروف [الطّيب تيزيني] في كتابه: [من التراث إلى الثورة] الجزء: (01) صفحة: (10): [إن النظر إلى (قضية التراث العربي) على أنها مسألة مصطنعة، ووضْعها مِن ثَمَّ بين قوسين، تعبيرا عن تعليقها وفسادها المنطقي والواقعي، قد أصبح في العالم العربي، على الأقل، منذ العقد الأخير من السنين، (يعني السبعينيات)، غير متوافِق مع معطيات الواقع المستحدثة].. ويقصد العقد الأخير، لأن فيه بدأتْ تبرز الطائفيةُ، والجماعات الإسلامية إلى الوجود، وصارت توظِّف التراثَ، وبواسطة هذا الركام التراثي، أصبح رجالُ الدّين هم المرجعية، واتخذوا محاربةَ الشيوعية الملحِدة مطيّةً؛ وهكذا، فبدلا من (التراث إلى الثورة)، والثورة هنا لا تعني الفوضى، بل معناها التغيير في العقلية، ونهوض الإنسان العربي من سباته العميق، وثوْرته على التخلف، وعلى تنويم الفكر والحِجْر عليه؛ ولكن للأسف الشديد حدث العكس تماما، حيث (من التراث إلى الثورة) أصبح (من التراث إلى الفتنة)..
ويرى المفكّر المغتال: [حُسَين مُرْوة] أن دراسة التراث منذ العصر الوسيط حتى اليوم، كانت وقْفًا على النظرات المثالية، والميتافيزيقية، المحكومة برؤية أحادية الجانب، لا تاريخية تقْطع التراثَ بجذوره الاجتماعية، وتنظر إليه كمعطى مطلق.. لكن كيف يُدْرَس تراثُنا في واقع الأمر، وما هي مراجعه التي نبجّلها رغم خوائها، وما هي نفائسه، ودُرَرُه، وكتبُه؟ يجيب على هذا السؤال مفكّر عربي كبير هو: [زكي نجيب محمود]، في كتابه: [تجديد الفكر العربي]؛ صفحة (54): حيث يقول: [وأترك للقارئ أن يقدّر لنفسه، كم هي النسبة في تراثنا العربي للكتب التي تروي نقلاً عن الآخرين: تارة تختار، وتارة تؤرّخ، وطورا تصنِّف، فكأنما الطّهاة الذين أعدّوا الطعامَ قِلّة لا تتجاوز العشرة أو العشرين؛ ثم تكاثرت حول المائدة ألوفٌ تتساقط الفُتاتَ المتناثر، كلٌّ يأخذ من هذا الفُتات ما وسعتْ حَفْنتاه؛ وإني لألْقي ببصري الآن إلى رفوف مكتبة عربية زاخرة..].. فسألناه: فماذا ترى يا دكتور في هذه المكتبة العربية الزاخرة يا ترى؟ فوعدَنا بالجواب غدا إن شاء الله تعالى؛ فكونوا في الموعد يرحمكمُ الله..