مصطفى غلمان
سأحاول في هذه الورقة العجلى أن أقارب مفهوم العنف من منظور قيمي، أعني مقاربة إكسيولوجية، أميز من خلالها بين نوعين من القيم، قيم نسبية متغيرة تكون وسيلة من وسائل الاقتراب من مآلات النفوذ والجهل وممارسة الظلم، وقيم أخرى مطلقة ثابتة نتوخاها لمظهر من مظاهر المحبة والتسامح والعدل والمساواة. بطبيعة الحال الأكسيولوجيا كمبحث أخلاقي يسائل السلوك الإنساني المتناقض، يبحث عن ماهيته في الوعي الأخلاقي انطلاقا من محددات كبرى في المنهج والوجود الفردي والتأثيرات الثقافية والهوياتية.
لا نحتاج بداية لتكريس مفاهيمية العنف ووضع تصنيفات حول إطلاقاته وتمدداته على المستوى السوسيولوجي المعرفي أو السيكولوجي المجتمعي. ولكنه بالبداهة يمكن تأويل مفهوم العنف وإنتاجه انطلاقا من أسباب وجود ما يعيق العمل التربوي والتعليمي والإداري في الوسط المدرسي، فانحسار العنف لا يمكن توجيهه فقط لأسباب ظاهرية وهي مشاعة بين أغلب المتحدثين عن تنامي العنف في الوسط المدرسي يحددونها في التصرفات العنيفة والمواقف ذات الطبيعة العدوانية التي تستهدف كلا من المتعلم والمدرس والإداري، مع تجاهل هذه السلوكات وصرف النظر عنها لعدم معالجتها، ما يجعلها معرضة للتضاعف والتكرار والانتشار السريع.
القاعدة المعرفية تقول إن منهجية ضبط الخلل رهينة بعمق التشخيص والتحليل وإنه من الضروري استشراف نموذج قائم من أجل التقييم وتحديد الخسارات!
إن عدم فاعلية الإصلاح التربوي واختلال هيكلة المنظومة التربوية برمتها في بلادنا هما نتيجتان حتميتان لاستفحال الأنماط السلوكية العنيفة، باختلافها عادية كانت أو رمزية، منظمة أو غير منظمة؛ حيث أضحى الفضاء المدرسي مجالا لتصريف السلوكات الكبتية الناتجة عن عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، وكذا النزاعات العدوانية المرضية المتأصلة في النسيج المجتمعي الهش كما العقد النفسية المغلقة بالنفاق الاجتماعي وما يترتب عنها من آثار مدمرة.
لقد أضحى النظام القيمي المنحط في مدرستنا مرهونا بإعادة النظر في علاقة ما دوناه سالفا في بداية مداخلتنا، من أن نظام الإكسيولوجيا يغيب عن مناهجنا التربوية بل يختفي من كل أنساق حيواتنا المدرسية وأنشطتها الموازية. إن سبب هذا الإهمال ليس قمينا بفك الارتباط بالحلول الاسقاطية، ولا تدجينها وتحويلها باتجاه المؤامرة، بل إن ضرورة إدماج البعد القيمي في تصحيح رؤيتنا لقضية العنف المدرسي برمتها هو السبيل إلى تحقيق المقاربة والاستراتيجية التي ينبغي، حتى تتوفر الفكرانية الشمولية المندمجة والتحمس للتطبيع مع نظرية "التحليل عبر التفاعل" الذي أطلقه عالم النفس التربوي الشهير الإنجليزي إيريك لينارد بيرن، من خلال كتابه الهام: "ألعاب الناس: سيكولوجية العلاقات الإنسانية".
وتقوم هذه النظرية على افتراض مؤداه أن شخصية كل فرد تتكون أساسا من: طفل وراشد ووالد. ويطلق على هذه المكونات حالات (الأنا): (أنا الوالد) (أنا الراشد) و (أنا الطفل)، ويتفاعل الأفراد مع بعضهم البعض عبر هذه الحالات للأنا. وقد أصبح التحليل عبر التفاعل أداة من الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها برامح التدريب القائمة على التعلم بالخبرة المباشرة (ص 119 العنف بين سلطة الدولة والمجتمع - قدري حفني).
يمكن أن يتصف هذا السلوك المكتسب بالتحيز والتعصب والعدوانية، كما أنه يتصف بالعطف والحنان والحماية، ونحن جميعا خلال ممارساتنا لحياتنا الواقعية ننتقل عادة بين حالات الأنا وفقا كذلك لطبيعة المواقف التي نمر بها، وقد يجد البعض صعوبة في الانتقال بين حالات (الأنا).
في تجسير قاعدة بيداغوحيا التربية على مستويات التفاعل والانتقال من براديجم التفكير بالكتابة إلى التحول الرمزي لفعل الخبر القيمي، يتجلى مكون الاتصال في قضايا وإشكاليات بنائية كالعنف في الوسط المدرسي، وتتداخل صورة العلاقة بين المدرسة كمؤسسة تربوية ووظيفة الإعلام وأشكال الاتصال كعلامة إكسيولوجية كما قلنا.
ليس صعبا الإجابة عن أسئلة مثل: أية صورة تحملها المؤسسة التربوية عن وسائل الإعلام؟ أو أية مواقف أنتجتها المدرسة حول الإعلام والاتصال؟ سنكون حقيقين بالإنصاف والتعادلية إذا حكمنا بمعيارية المنظار التخميني؛ حيث نتسارع للحسم في مظاهر التوافق والتجانس والتكامل والشمولية بين المدرسة والإعلام، وحيث ترتبط كل مهن العالم والكون منذ خلق الله هذه البسيطة بمن تخرج من المدرسة. فالمدرسة وجدت قبل أن يوجد الإعلام.
ربما ننتهز الفرصة للقول إن الإشكاليات التقليدية المؤسسة للعلاقات بينهما ترتبط في أغلبها بالتأويل المسبق للخلفيات الثقافية والنظم البلاغية الواجب تكريسها في النطاقين.
الإعلام يؤسس لمنظومة أخلاقية قائمة على إشاعة المعرفة ونشر الحقيقة وتوخي المصداقية ورصد الحقائق ومراقبة التنظيمات. وكلها أهداف بيداغوجية تربوية تتقاطع مع الموجهات العامة للسلوك التربوي في الوسط المدرسي، ومع تطور وسائل الإعلام وقياساتها على المستوى التكنولوجي والاتصالاتي بدت الفجوات تتسع وترهق الحوافز البيداغوجية وطاقة الاستيعاب القيمي، خصوصا ما يتعلق بالجانب الأخلاقي واللغوي والثقافي.
وتجاوزت هذه المتاهة تحريف التاريخ والجغرافيا أو الثقافة المحلية وتجهيل العقول والانحراف بالشباب إلى دهاليز الضياع والجوع الحضاري.
ونحن مع كل هذه الموانع، نمارس على أبنائنا خائلية في الغياب الممنهج عن أداء واجبنا الأسري، وفي تقويض المثالية والقدرة، وانحرافنا عن أداء الواجب التربوي، وعدم قابليتنا لتحقيق طفرة التحصين والحماية والانتقاص والشك الزائدين تجاه طاقة المتمدرسين وتشجيع النجباء وإقصاء الراسبين، وتحويل الآخرين إلى قنابل موقوتة تحارب بالعنف مرد فعل لا إرادي لأجل أن تتواجد وتخترق وتكابر عن تيه وضلال.
لقد أحدثت الثورة التكنولوجية في مجال الإعلام والاتصال تحولا جذريا في طبيعة العلاقة بين التربية والإعلام، فأرخت التغيرات إياها ظلالها على قيم المجتمع المدرسي والأسري على حد سواء، وانمازت الفوارق في الوعي بين مهدر للجهد يداري عن قصدية العنف وتجذره في بنية العلاقة النافرة داخل المؤسسة المدرسية، ومتآمر بالفعل والصمت دون أن يحرك ساكنا ويبدي استعداده للمساهمة في تطويق زحف العنف والحد من تداعياته على مكونات بنية المدرسة ومستقبلها.
نحن كإعلاميين معنيين بهذه التحولات الطارئة في جسد مدرستنا، نعم الإعلاميون مسؤولون عن تأخر إصلاح الأعطاب، مغامرون في بحر متلاطم يحملنا جميعا على سفينة واحدة، ما الذي نستطيع فعله إزاء هذا الوباء القاتل الذي أضحى يختزل جزء من روح الشخصية الوطنية، ويؤثر فيها، ويوجهها ببوصلته المشحونة بالعنف والعنف المضاد؟
وسائل الإعلام – وبخاصة الإلكترونية –أسهمت في تدني مستويات التحسيس والتوعية والتثقيف تجاه ظواهر مجتمعية خطيرة، من بينها العنف المدرسي والحريات الفردية ومظاهر الإجرام المنتشرة وتعاطي المخدرات والكحول...إلخ فعوض خدمة الأغراض التربوية وتوسيع خدمات التثقيف والمثاقفة ومداولة الأفكار وترشيد العقول، يمارس بعض من الإعلام الوطني شذوذا ناشزا وغلوا فوق التصور لأجل الرفع من علاقته بالمواطنين على حساب القيم والأخلاق، يباعد بين جوهر سيرورته كوسيلة للنفع العام واستعمال التأسيس التربوي للتقنيات إعلاميا واتصالاتيا كأدوات بيداغوجية، دون أن ينجح في أداء وظيفته الأساسية التي خلق لأجلها، وهي التأديب والحض على التعلم وغرس آداب السلوكات المرغوب فيها والتعويد على القيم وفق أخلاقيات المجتمع، كل ذلك بواسطة حضور معرفي وثقافي تخصصي وجاذبية وإتقان وصدق.
كلنا مسؤولون عن العنف في الوسط المدرسي وفي محيط المؤسسات التعليمية.
* الورقة التي شاركت بها في الندوة العلمية الوطنية التي نظمتها المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية بقلعة السراغنة يوم الجمعة 29 دجنبر 2017 في موضوع: "ظاهرة العنف المدرسي: مبادئ أساسية وتدابير وقائية"، من أجل: "مدرسة مغربية بدون عنف".