محمد أكديد*
مقدمة
خلال الإحتجاجات الأخيرة التي عرفتها الجمهورية الإسلامية في إيران، وبالرغم من أن جل المطالب التي رفعها المحتجون كانت تدور في فلك الإصلاحات الإقتصادية والإجتماعية خاصة بعد أن تم رفع أسعار الوقود، الأمر الذي عرفته أيضا في الآونة الأخيرة عدد من الدول العربية بعضها أيضا ينتج النفط كالسعودية مما كان له تداعيات سلبية على ارتفاع أسعار الكثير من المواد الأساسية. إلا أن البعض كان يصر على ربط هذه الإحتجاجات باستبداد حكام إيران من جهة، وربط الإستبداد من جهة أخرى بنظام ولاية الفقيه، رغم خروج الملايين من الحشود بعد ذلك في معظم المدن الإيرانية للتعبير عن ولائها وارتباطها بهذا النظام الذي اختارته الجماهير الشعبية بعد نجاح الثورة الإسلامية في هذا البلد عن قناعة، رغم الإنتقادات التي يوجهها أيضا بعض المسؤولين داخل دوائر الحكم لهذا النظام خاصة مع تيار الإصلاحيين الجدد.
وقبل الحديث عن أصول نظرية "ولاية الفقيه" في التراث الإسلامي الشيعي لا بد من التعريج على الدستور الإيراني للوقف على صلاحيات هذه الولاية وحدودها.
ولاية الفقيه في الدستور الإيراني:
تنص المادة الخامسة من الدستور الإيراني على أن ولاية الأمر وإمامة الأمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في زمن غيبة الإمام المهدي (الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية)، تكون بيد الفقيه العادل المتقي العالم بأمور زمانه، الشجاع الكفؤ في الإدارة والتدبير الذي يتولّى هذا المنصب وفقًأ للمادة 107، كما تنص المادة نفسها على تساوي القائد مع عامة الشعب أمام القانون. وتذكر المادة 109 الشروط اللازم توفرها في القائد بما نصه:
- الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه.
- العدالة والتقوى اللاّزمتان لقيادة الأمة الإسلامية.
- الرؤية السياسية والاجتماعية الصحيحة والتدبير والشجاعة والكفاءة الإدارية والقدرة الكافية للقيادة.
وعند تعدد من تتوفر فيهم الشروط المذكورة يفضل من كان منهم حائزاً على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره.
وتنص المادة 110 على مجموعة من الصلاحيات التي تخول للولي الفقيه، والتي لا تختلف كثيرا عن الصلاحيات المخولة دستوريا للكثير من الملكيات بما في ذلك منها الملكيات البرلمانية كبريطانيا، كتحديد السياسات العامة للنظام والإشراف على حسن إجراءها والقيادة العامة للقوات المسلحة، و إعلان الحرب والسلم، ونصب وعزل وقبول استقالة الوزراء وعدد من كبار المسؤولين في جهاز الدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية الذي ينتخب عن طريق الاقتراع العام1، بالإضافة إلى القيام بدور الحكامة بين المؤسسات وممارسة حق العفو.
وعلى عكس الإعتقاد السائد، فإن منصب الولي الفقيه لا يورث بل يتم بالإنتخاب، حيث تنص المادة 107 من الدستور الإيراني على أن مهمة تعيين القائد: "موكلة إلى خبراء القيادة المنتخبين من قبل الشعب. هؤلاء الخبراء يدرسون ويتشاورون بشأن كل الفقهاء الجامعين للشرائط المذكورة في المادتين الخامسة والسادسة بعد المائة، ومتى ما شخّصوا فرداً منهم - باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأى العام، أو تمتعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة في المادة التاسعة بعد المائة - انتخبوه للقيادة، وإلا فإنهم ينتخبون أحدهم ويعلنونه قائداً. ويتولّى القائد المنتخب من قبل الخبراء ولاية الأمر ويتحمّل كل المسؤوليات المترتبة على ذلك"، كما يمكن لمجلس الخبراء -دستورياً- أن يعزل القائد من مهامه في إحدى الحالتين التاليتين:
في حال عجزه عن أداء واجباته الدستورية.
في حال فقدانه صفة من صفات الأهلية التي نصت عليها المادتان (5) و(109) من الدستور، أو إذا تبين أنه لا يملك تلك الصفة من الأساس.
وفوق ذلك، وفي إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة، فقد جاء في المادة 142 من الدستور الإيراني بأن المحكمة العليا تتولى التحقيق في ملكية القائد (الولي الفقيه) إلى جانب أعضاء مجلس القيادة و رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء والوزراء وزوجاتهم وأولادهم قبل وبعد تحمل المسؤولية، وذلك لئلا تكون قد زادت بطريقة غير مشروعة.
وهكذا، فبجانب الصلاحيات التي يتمتع بها الولي الفقيه في إيران والتي تتصاعد اليوم الأصوات من الداخل من أجل تحديدها، في مقابل تقوية صلاحيات رئيس الجمهورية2، هناك الكثير من القيود التي تؤطر هذه الولاية تبدأ من شروط تعيينه ومحاسبته لتنتهي إلى عزله إذا أخل بالتزاماته التي اختير لأدائها، مما لا يستقيم وأطروحة الإستبداد التي يصر البعض على ربطها بهذا المنصب.
الأصول الشرعية والجذور التاريخية لولاية الفقيه:
تنسجم نظرية "ولاية الفقيه" مع أصل الإمامة3 الذي يعد مفهوما مركزيا لدى الشيعة، والذي يتجاوز بمقتضياته المجال الديني والاجتماعي إلى الحقل السياسي. حيث ساعد التراث المرتبط بهذا المفهوم –الإمامة- في ابتداع هذه النظرية خاصة في زمن الغيبة والتي خلقت ارتباكا وجدلا كبيرا مازالت تداعياته تهيمن على المشهد السياسي الشيعي ليومنا هذا، وذلك حول المرتكزات الشرعية التي تقوم عليها هذه الولاية، وكذا حدود صلاحيات الفقيه الذي ينوب في هذا المقام عن"الإمام المعصوم".
وهكذا ولتجاوز عقيدة التقية والانتظار لظهور المهدي، وقطع الطريق أمام مدعي النيابة الخاصة وانسجاما مع الأسس التي قامت عليها الإمامة (عدم خلو الأرض من إمام معصوم معين بالنص يتصدى للاجتهاد الديني وللإمامة السياسية)، جاءت "ولاية الفقيه " كحل بديل ستعمل الدولة الصفوية في إيران على تنزيله على أرض الواقع عبر الإستعانة بفقهاء الإمامية كالمحقق العاملي الكركي (1466-1534م) الذي جاء من جبل عامل بلبنان إلى إيران و طور نظرية النيابة العامة للفقهاء، فأجاز للفقهاء في حالة الغيبة إقامة الحدود، والقضاء، وصلاة الجمعة.
وقد ساعد على هذا الأمر البناء المذهبي لدى الطائفة الشيعية خاصة في جانبه العقائدي المرتبط بالإمامة، بالإضافة إلى ارتباط الشيعة بفقهائهم بشكل لافت، مما عزز فيما بعد سلطة الفقهاء داخل المجتمع الشيعي.
ورغم السجالات التي عادت بقوة بين الإخباريين والأصوليين بعد انهيار الدولة الصفوية في القرن الثاني عشر والتي استمرت مع الحكم القاجاري، فإن دور العلماء كان قد تعزز كثيرا إلى حد تجاوزه لدور الحاكم أحيانا كما حصل مع السيد محمد المجاهد الذي أطلق المقاومة ضد الاحتلال الروسي لشمال إيران بعد تباطؤ الشاه الذي اضطر لمسايرة العلماء في إعلان الجهاد في سابقة نوعية تجاوز فيها الفقهاء سلطة الحاكم. أو فتوى استعمال التبغ "التنباك" المشهورة والتي أطلقها المرجع الأعلى محمد حسن الشيرازي (سنة 1891 م) في وجه الشاه ناصر الدين وأجبرته على إلغاء اتفاقية "التنباك" الموقعة مع شركة بريطانية بعد محاولتها احتكار سوق هذه المادة4.
حيث ستتطور هذه النظرية مع عدد من فقهاء الإمامية نذكر من أبرزهم المحقق النراقي والنجفي و الإمام الخميني الموسوي الذي كان يرى في كتابه "الحكومة الإسلامية" أن للفقيه جميع ما للإمام من الوظائف والأعمال في مجال الحكم والإدارة والسياسة.
في كتابه "عوائد الأيام" يرى النراقي (1245ه) بأن مصدر الولاية والتشريع هو الله وحده لا شريك له، والشارع قد منح الولاية إلى الأنبياء ثم الأوصياء ثم الفقهاء.
ومن أبرز المسائل التي استدل بها على جواز ولاية الفقهاء مكاتبة إسحاق بن يعقوب ومقبولة عمر بن حنظلة. أما المكاتبة ففيها: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم"5. وأما المقبولة، فقد سئل أبو عبد الله عن رجلين بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء فكان رده: "ينظر إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله"6.
وعلى صعيد الأخبار، فقد أورد تسع عشرة رواية لا يسلم معظمها -أو كلها بالأحرى- من النقد في إسنادها ومن الجدل في دلالاتها، وما زال بعضها مدار الاستدلال على "ولاية الفقيه" إلى يومنا هذا.
سوف يستند الإمام الخميني فيما بعد على نفس الأدلة التي ارتكز عليها الإمام النراقي في التأصيل لهذه الولاية، حيث يرى بأن الأدلة التي توجب الإمامة هي نفسها توجب ولاية الفقيه. لأن الفقهاء هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل، ولم يرثوا العلم والحديث فقط كما هو ظاهر الروايات. فالحكومة (ولاية الفقيه) شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج..7
وقد كان لنجاحه الكبير في تفجير الثورة الإيرانية سنة 1979 م، وبناء دولة قوية استطاعت الصمود في وجه الحرب ومخططات الحصار وحملات التشويه، دور كبير في تعزيز رهانات هذه النظرية. وبعد وفاته انعقدت الدورة الخامسة لمجلس الشورى وأدخلت ولاية الفقيه في الدستور الإيراني وفاء له، وفي سياق التأكيد على تجسيد الدولة فكر مفجر الثورة8 ، كما تم انتخاب خامنئي "وليا فقيها" من قبل مجلس الخبراء..يتبع
الهوامش:
1- أقدم الإمام الخميني مرة واحدة على استخدام صلاحياته الدستورية ليقيل أبو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية الأول عام 1981م عندما قام هذا الأخير بنقض الدستور في تخلفات عدة أدت إلى سحب الثقة عنه ومن ثم إلى إقالته.
2 -أصبح لدى رئاسة الجمهورية أهمية متزايدة، خاصة منذ عام 1989
3- يرى الشيعة بأن الإمامة مهمة إلاهية كمهمة الرسول (ص)، إذ يحتل الإمام موقع المرجعية الدينية، التي تمتد مهمتها إلى قضايا وأبعاد مختلفة في العقائد والأحكام والأخلاق والقيادة، مما يستوجب طاعته والأخذ منه، ويكسب أقواله وأفعاله وتقريراته حجة شرعية كحجية الرسول(ص). حيث ترتقي بهذه المنزلة إلى أصول الدين عندهم.
4- انظر طلال المجذوب "إيران من الثورة الدستورية حتى الثورة" ص 108 طبعة ابن رشد، و"لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" طبعة لندن 3/95.
5- ولاية الفقيه للنراقي ص 44-45, وقد ذكره الصدوق في أعمال الدين في الباب "التاسع والأربعون". وانظر الاحتجاج 2/281, والغيبة للطوسي ص 176, ووسائل الشيعة للحر العاملي في الباب من أبواب صفات القاضي.
6- ولاية الفقيه للنراقي ص 56. وقد أوردها الكليني في كتاب القضاء والأحكام في باب كراهية الارتفاع إلى قضاء الجور، والحر في الوسائل في الباب من أبواب صفات القاضي. وسند الرواية ضعيف الإسناد بعمر بن حنظلة. ولكنها منجبرة لإقبال العلماء عليها ولهذا سميت بالمقبولة.
7- مقتطف من رسالة بعثها الإمام الخميني للخامنائي عندما كان رئيسا للجمهورية بعد أن عبر عن امتعاضه بعد إجازة الخميني لوزير العمل تطبيق بعض القوانين التي لم يصوت عليها مجلس المحافظة على الدستور.
8- انظر نظريات الحكم في الفقه الشيعي ص33-34.
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية