كل دولة من الدول إلا وتجتر خلفها تاريخا تتقاطع فيه النجاحات والإخفاقات والخطوات الجريئة بالتعثرات والكبوات، وبين هذا وذاك تطفو اللحظات المشرقة والمجيدة، خاصة تلك التي ترتبط بالوطن وتعبر عن روح الهوية وأحاسيس الانتماء؛ ففي حياة الناس ذكريات لا تنسى ومواقف بطولية تستحق التسجيل والتأمل واستخلاص العبر.
والمغرب، كغيره من الأوطـان، ينفرد تاريخه الطويل بالعديد من الأحداث والوقائع المشرقة التي لا تزال ترصع بنيان الذاكرة وتصون صرح الهوية. وفي هذا الصدد، فقد عاش المغرب المعاصر والراهن عددا من الأحداث البارزة التي ارتقت إلى مستوى الأعياد الوطنية التي يحتفي بها المغاربة كل سنة ليس فقط من أجل استحضار ما قام به الأسلاف من تضحيات جسام، سواء على مستوى بناء الوطن أو على مستوى الدفاع عن حوزته، بل أيضا لما تحمل هذه الأحداث من رمزية متعددة المستويات.
ويمكن على سبيل المثال لا الحصر، أن نسوق الأعياد التي تؤرخ لحقبة الاستعمار بدء بحدث 11 يناير 1944 (تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال)، وحدث "ثورة الملك والشعب" (20 غشت 1953)، وحدث "الاستقلال" (1956م)، بالإضافة إلى الأعياد الوطنية التي تؤرخ لحقبة ما بعد الاستقلال، وفي طليعتها حدث "المسيرة الخضراء" (6 نونبر 1975م). وهذه الأعياد المجيدة لها مكانتها في قلوب المغاربة لما تحمله من دروس وعبر.
وفي ظل احتفالات الشعب المغربي بذكرى "11 يناير"، سنتوقف عند هذه الذكرى التي تعد حلقة من حلقات كفاح خاضه العرش والشعب في سبيل مكافحة الاستعمار وتحقيق الاستقلال واستكمال مسلسل الوحدة الترابية، سنركز أولا على سياق الحدث الذي لا يمكن فهمه دون مقاربة الظروف السابقة التي أفرزته، ثم سنلقي الضوء في مرحلة ثانية على الحدث في حد ذاته من حيث التعريف به واستقراء أهم النقط التي وردت في بيان عريضة المطالبة بالاستقلال، على أن نختم بإبراز أهمية الحدث وما يحمله من دروس وعبــر.
أولا: عريضة 11 يناير 1944م.
السياق التاريخي:
لا بد من الإشارة ابتداء إلى أن حدث 11 يناير 1944م أحاطت به ظروف داخلية معقدة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي دولي، والظرفان معا ساهما في بلورة الوثيقة والإقدام على صياغتها وتوزيعها على الجهات المسؤولة. وفي هذا الصدد، يمكن الانطلاق من حدث خضوع المغرب لنظام الحماية (1912م) حيث تقاسمته كل من فرنسا (في الوسط) وإسبانيا (في الشمال والصحراء)، فيما احتفظت "طنجة" بوضع المنطقة الدولية.
وقد برز رد فعل المغاربة مبكرا من خلال اندلاع شرارات المقاومة العسكرية التي عمت كل المناطق، وبرز خلالها زعماء كبار (أمثال أحمد الهيبة، مربيه ربه، موحى أوحمو الزياني، عسو أوبسلام، محمد بن عبد الكريم الخطابي...) أحرجوا المستعمر في عدد من المعارك رغم محدودية الوسائل وضعف التنسيق والتواصل، لكن وبما أن العبرة بالخواتم، فقد تم القضاء على هذه المقاومة من طرف جيش الاحتلال الذي سخر كل ما لديه من وسائل لكسر شوكتها. ومع مطلع سنة 1934م استكملت فرنسا سيطرتها على التراب المغربي بعد أن استسلم معظم الزعماء، لتشرع في استغلال البلاد اقتصاديا واجتماعيا وإداريا.
ستعرف المقاومة المغربية أول منعطف لها، ويتعلق الأمر ببروز معالم حركة وطنية بالمدن تبنت الخيار السياسي كآلية سلمية لمواجهة سلطات الاحتلال الفرنسي والإسباني، حركة وطنية برزت في ظرفية حرجة أبانت من خلالها فرنسا عن حقيقة مخططاتها الاستعمارية من خلال إصدارها لما يعرف بـ"الظهير البريري" (16 ماي 1930م) الذي توخت عبره عزل الأمازيغيين عن العرب بإخضاع كل طرف منهما لقوانين خاصة تكريسا لمبدأ "فرق تسد".
ومن حسنات هذا الظهير أنه أسهم في توحيد صفوف الحركة الوطنية الناشئة، وعكس انسجاما في مواقف المغاربة (عربا وأمازيغ) تجسد على أرض الواقع في موجات الاحتجاجات الواسعة التي عمت كل المدن المغربية كتعابير عفوية وتلقائية دلت على أن الجماهير المغربية متشبثة بوحدة الوطن وسيادة الشرع وسلط الملك.
لكن أهم متغير في تلك الفترة خصوصا، والحياة السياسية المغربية عموما، كان هو تشكل أول حزب سياسي مغربي من طرف قادة الحركة الوطنية (علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني ومحمد بلافريج)، ويتعلق الأمر بـ"كتلة العمل الوطني" (1933)، التي نددت بالاستغلال الاستعماري مسخرة في ذلك عدة وسائل وأساليب سلمية من قبيل تأسيس الجرائد والمجلات والمدارس الحرة ومقاطعة مختلف السلع والبضائع الأجنبية، فضلا عن الاحتفال بعيد العرش باعتباره رمزا للوحدة الوطنية.
وفي ظل هذا الحراك السياسي، تم تقديم "برنامج الإصلاحات" (1934م) إلى السلطان محمد بن يوسف والإقامة العامة بالرباط وإلى الحكومة الفرنسية، تميز بلهجته المعتدلة؛ حيث لم يعترض على نظــام الحماية، وطالب الحكومة الفرنسية باحترام روح ومنطوق معاهدة فاس.
وعلى غرار المنطقة الفرنسية، فقد شهدت المنطقة الخليفية (الخاضعة لإسبانيا) هي الأخرى مطالب إصلاحية تقدم بها الوطنيون في هذه المنطقة إلى سلطات الاحتلال الإسباني، لم تنص بدورها على المطالبة بالاستقلال، بل اكتفت بمطالب إصلاحية سياسيا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا.
وفي ظل تجاهل سلطات الحماية لهذه المطالب الاصلاحية، واصلت الحركة الوطنية نضالها واشتدت المواجهات والاحتجاجات على سياسة الاستغلال الاستعماري (السطو على الأراضي الزراعية التي يملكها الفلاحون المغاربة، تحويل مياه واد بوفكران لتسخيرها في سقي أراضي المعمرين الفرنسيين...).
وقد واجهت الإقامة العامة هذه الأوضاع المضطربة بالقمع وتضييق الخناق على قادة الحركة الوطنية (نفي، فرض الإقامة الجبرية...)، لكن المتغير الذي سوف يطبع الحياة السياسية لاحقا، هو انشقاق صفوف الحركة الوطنية سنة 1937م في وقت كانت فيه الظروف تفرض المزيد من الوحدة والتكتل وطرح الخلافات جانبا، ترتب عنه (في المنطقة الفرنسية) تأسيس حزب "الحركة الوطنية لتحقيق المطالب" (بزعامة علال الفاسي) وحزب "الحركة القومية" (بزعامة محمد الحسن الوزاني). الانشقاق نفسه حصل في المنطقة الخليفية (الإسبانية)؛ حيث تأسس حزب "الإصلاح الوطني" (بزعامة عبد الخالق الطريس) وحزب "الوحدة المغربية" (بزعامة المكي الناصري).
لكن إذا كان عمل الحركة الوطنية لم يبارح خلال فترة الثلاثينات حدود المطالبة بالإصلاحات، فقد بدا واضحا أن رؤية الوصول إلى الاستقلال عن طريق الإصلاحات كانت رؤية غير صائبة ولا يمكن أن تحقق أية أهداف حقيقية على أرض الواقع في ظل سياسة استعمارية جمعت في آن واحد بين يديها سلطة الاستغلال المكثف للخيرات وسلطة التضييق والقمع والقتل؛ لذلك كان من المنطقي ومن أجل الإصلاح، لا بد من الاستقلال.
في هذا الصدد، سوف تعرف الحركة الوطنية تطورات خلال فترة الأربعينات من سماتها البارزة تجاوز رؤية المطالبة بالإصلاح وتبني نهج "المطالبة بالاستقلال"، وهذا التحول الجذري استفاد من الظروف الخارجية الدولية المرتبطة أساسا بمجريات الحرب العالمية الثانية التي انخرطت فيها الدول الإمبريالية، ومنها احتلال الدولة المستعمرة (فرنسا) من قبل القوات النازية وصدور "ميثاق الأطلسي" (1941م)، ولقاء أنفا بالدار البيضاء (1943م ) الذي أبدى فيه الرئيس الأمريكي (روزفيلت) تفهمه وعطفه ببذل الجهد لتحقيق الأماني المغربية في الاستقلال بعد نهاية الحرب، بالإضافة إلى تعزز الحركة الوطنية بظهور أحزاب سياسية جديدة (حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي...)، وإقبال العمال المغاربة على العمل النقابي، فضلا عن النجاحات التي حققتها الحركات الاستقلالية بالمشرق العربي والتي مهدت للاستقلال وشكلت بذلك دافعا محفزا لزعماء الحركة الوطنية.
إذن، في ظل هذا السياق التاريخي العام الذي تقاطعت فيه تطورات الوضع الداخلي بالمتغير الدولي، أصدرت الحركة الوطنية "عريضة المطالبة بالاستقلال" في 11 يناير 1944م التي أكدت بوضوح وبشكل مباشر على "مطلب الاستقلال"، بعد أن اكتفت في مرحلة سابقة بالمطالبة بالإصلاح في ظل الحماية.