من الملاحظ أن مضامين بعض المصطلحات التي تستعمل في مجال السياسة لها بشكل كامل أو في جزء منها، نفس المعنى عندما يتم استخدامها في الحياة العامة والاجتماعية، فمثلا يمكن اعتبار ما يصطلح عليه سياسة القرب في السياسة، هو ما يصطلح عليه في الحياة الاجتماعية والعامة بالتواضع، فكل من التواضع، وسياسة القرب يجعلان المتسم بهما قريبا من الأخر، ومهتما لحال الآخر، ولا يترفع عن الأخر. والمتواضع حقيقة هو ذاك الإنسان الذي رغم اختلافه عن الأخر ماديا وثقافيا، وأخلاقيا، ونسبا، لا يصاب على الإطلاق بالغرور الذي يجعله يحس بمكانته الأعلى من مكانة الآخر....
والتواضع الحقيقي سواء بمفهومه السياسي: سياسة القرب، أو بمفهومه الاجتماعي: التواضع يبقى دائما إحساسا ينبع من الأعماق ويصب مباشرة في أعماق الأخر، وقلبه، بينما التواضع المزيف...وهو الذي سميته " التي ....واضوع" فإنه مصطنع حدود تأثيره لا تتعدى حدود أنف صاحبه، وبصر الآخر، وسرعان ما يزول وينتحي ....
فالتواضع بمفهوميه المشار إليه في العنوان إذن هو سياسة ممنهجة يكاد ينخرط فيها ويأتيها جل المسؤولين المغاربة فكلما كانت "الكاميرا "شاعلة" كلما وجدت المسؤول المغربي متواضعا...في ابتسامه للآخرين، وسلامه عليهم، وربما الجلوس إلى جانبهم دونما تبرم، وعناقه للمسن، وتقبيله للصغير والصغيرة ... ويجد له في كل هذا من يهلل ويزمر ويطبل .....ويجتهد في اختيار العبارات والأساليب والصور التعبيرية دون حشمة ولا حياء...
هؤلاء المتواضعون من وزراء، وولاة وعمال، ومسؤولين كبار بالمؤسسات العمومية وشبه العمومية، وما شابه لا يقومون سوى بممارسة لعبة "التي...واضوع" فكلهم تجدهم في مكاتب مساحتها تقارب أو تزيد عن مساحة شقق السكن الاقتصادي، ومؤثثة بمكاتب من آخر طراز، ولوحات تشكيلية ثمينة تزين الجدران، وخلافه كثير، كما تجد لبعضهم مصعدا خاصا يبعده عن تلويث مقلتيه بمناظر صغار القوم من الموظفين، ولهم الفيلا تسرح وتمرح فيها الخيول، والماء والهاتف وروافده والكهرباء وتعويض اللباس، وتعويض التعيين وتعويض التسريح، وتعويض التقاعد...وكل التعويضات الممكنة وغير الممكنة، وحظيرة سيارات متنوعة الخاصة به، وبأسرته، وجيش من الخدم والحشم الذين يحصلون على أجورهم من خزينة الدولة...وبالتأكيد تعويض عما يمارسونه من "تي...واضع " ... كل هذا وغيره مما خفي... ومع كل هذا يجد هؤلاء من يصورهم مسؤولين متواضعين...
إذا كانت كل هذه النغنغة إذن ، تعتبر تواضعا، فماذا يسمى ما يأتيه عدد من قادة العالم نساء ورجالا واللواتي والذين غزت صورهم شاشات العالم وفضاءاته الزرقاء...ففي أي خانة مثلا نضع صورة رئيس وزراء النرويج وهو واقف في طابور أمام الصراف الآلي "الكيشي " ينتظر كأيها الناس ليصرف نقودا من أجرته الشهرية، وفي أية خانة نضع صورة أنغيلا دوروتيا ميركل المستشارة الألمانية وهي تتسوق بإحدى الوحدات التجارية بمفردها؟ ولا واحد ولا واحدة من المتبضعين بالمركز التجاري ينظر إليها ولا هو مهتم بها، وهي التي تعيش في الطابق الرابع في عمارة مع زوجها، وأين نضع صورة وزير خارجية الدانمرك، ووزير خارجية السويد، ووزير مالية ألمانيا وهم ذاهبون إلى مقرات عملهم على دراجة هوائية؟ وأين نضع صورة رئيس وزراء أستراليا مالكوم تورنبول وهو واقف متمسك بعارضة داخل قطار في اتجاه منزله بعد انتهائه من عمله؟....هذا بكل بساطة هو التواضع الحقيقي... أما أصحابنا نحن فلا يعرفون سوى "التي ...واضع" والتي ..واضوع" بالدارجة هي " القوالب".
السعيد بنلباه