سُئِل [الفضلُ بن يحيى] عن أنواع البشر في زمانه فقال: [الناس أربع طبقات: ملوكٌ قدّمهم الاستحقاق؛ ووزراء فضّلتهم الفطنة والرأي؛ وعِلِّية أنهضهم اليسار؛ وأوساط ألحقهم بهم التأدّب؛ وناس بعضهم زَبدٌ جُفاء وسيلٌ غُثاء، لُكَّعٌ لُكاع، وربيطة اتّضاع، هَمُّ أحدِهم امتيازاتُه، وطعامه، ونومُه.].. وقال [معاوية] سائلا [الأحنف]: [صِفْ لي الناس]؛ فقال: [رؤوس رفعهم الحظّ؛ وأكتافٌ عظّمهم التدبير؛ وأعجاز أشهرتْهم المناصب والأموال؛ وأدباء ألحقهم بهمُ التأدّب؛ ثم أحزاب إنْ جاع أهلُها ساموا، وإن شبعوا ناموا، وعن الخير صاموا، وعلى جمْع الأموال داموا..]؛ هذه هي آراء خاصة في بشر تلك الأيام.. أليس من بين مَن وُصِفوا في هذه المقاطع بالأوصاف المذمومة، هم مَن يوجدون في الأحزاب، وفي الحكومة، وفي الغرفتين، والمجالس، وقسْ على ذلك؟ ألا يهمّ هؤلاء فقط، رواتبُهم الشهرية، ومناصبهم العالية، وامتيازاتُهم الجزافية؛ أشهرَهُم المال، حتى إذا شبعوا ناموا، وعن مصالح الوطن صاموا، وعلى المسّ بقوت الرعية داموا؟
كان [بنكيران] قاتلا صائتا؛ وصوتُه عاليا، وفي سياسته العوجاء مندفعا، وللشعب دوما متوعّدا ولو جاءت الصين كلها تحتج؛ فنسف تقاعُد الكادحين، وأقرّ حقَّ التقاعد للباذخين؛ وعفا عمّا سلف بالنسبة للفاسدين، ورفع دعوى على المعطّلين؛ وكسّر عظامَ المحتجّين؛ واقتطع من أجور المضربين؛ وأدّى تعويضات البرلمانيين النائمين؛ وأراد أخْذ جزية من أولياء المتعلّمين، لولا تدخّل أمير المؤمنين؛ واستورد نفايات الإيطاليين، وساند جماعة (نصرة) الإرهابيين، ورفع شعار (رابعة) وهو شعار (الإخوان) الماسونيين؛ وأثقل كاهل الدولة بديون صار يرزح تحت ثقلها كافة المواطنين، حتى أتاه اليقين، فودّع الحكومة، وكفر به كافة (البيجيديين)، بإيعاز من (العثمانيين) تماما كما أزاح ذات يوم، حزبُ (الشيوعيين)، زعماءَ من أمثال (تروتسكي، وبوكارين) بزعامة المستبدّ القاتل (ستالين)؛ ثم لا فرق بين حزب (ابن تيمية)، وحزب (لينين)؛ فخلفه في الحكومة وعلى رأس الحزب شخص يُدْعى (سعْد الدّين)..
فأين ستفر يا [سَعيد]، يا مسكين، من سياسة [سعْد الدّين] الذي بخنجر الأسعار يَبْقُر البطونَ ويقطِّع المصارين؟ [سعْد الدين] جمع حوله حكومةَ الأربعين؛ وكل وزرائه هم مجرّد باعة في دكاكين؛ يحدّدون أسعار الأغذية والطّحين، ويعلّقون لافتاتٍ كل لحظة وحين، خاصة بالزيوت والبنزين، وقبل بداية السنة، قدّموا للشعب هديةً، وهي مخالفة خاصة بالرّاجلين؛ وحوّلوا رجالَ الشرطة إلى منظّفين لجيوب المواطنين؛ وتحوّلت شوارعُنا إلى حقول ألغام ضد الراجلين، وكل لُغْم قد يكلّفك (50) درهمًا في كل لحظة وحين، للحفاظ على عيش الباذخين.. أنت تعلم ما حصل لعدة بلدان، منذ زمان، بسبب ما نجم عن فساد الأحكام، وجوْر الحكّام، وظُلمِ أصحاب السلطان.. أنت تعلم ما حدث بسبب الضيق المالي، والعيش الغالي وبذخ أصحاب المعالي.. أنت تعرف ما أصاب أممًا كان استبداد وزرائها خلْف ما آلت إليه أوضاعُ شعوبها بسبب الغلاء، وجشع الوزراء والأثرياء، وتحكُّم الأغنياء في لقمة عيش الفقراء.. فهل نحن بحاجة إلى أحزاب تنتج وزراء بلا ذكاء، همّهم الثراء، ولحلّ مشاكل الأمة يلجؤون للزيادة في الاقتطاعات، وفي أسعار الماء، والكهرباء، والدواء، والغذاء، حفاظا على بذْخ، وسُحْت الدّهماء، من نواب ووزراء..
[سعْد الدّين العثماني]، الصامت، تراه يغدق من قوت الفقراء، على النواب والوزراء.. هذا يذكّر بما حدث في التاريخ لدولة العبّاسيين، حيث أطلقوا أيدي الوزراء في أموال الأمّة، يقرّبون الأتراك، والفرس، والخُراسانيين، ويبقى العربُ الأقحاح بالأبواب لا يُستقبَلون، ولا يُسْمعون تماما كما هو حال المغاربة، وهم (34) مليونًا، بلا أحزاب، بلا حكومة، بلا برلمان؛ مغاربة هم أغلبية، لا يصوّتون، فاستبدّت بأحوالهم أقلّية حزبية، وصارت تذيقهم كل ألوان العذاب باسم الديموقراطية؛ لا بل الديموفاشية.. هذه الأقلية الحاكمة، مطالبُها وامتيازاتُها محفوظة، وأصواتُها مسموعة، وبقية المغاربة طلباتهم مقموعة، في عهد هذه المجموعة، التي وُسمت سياستُها بالمظالم والميوعة.. ذكروا أن الشاعر العربي [أبو تُحَيْلة] وقف بباب وَالٍ عبّاسي، فلم يأذنْ له، فيما أذن لغيره بالدخول عليه، مثل مغاربة اليوم، لا يُؤْذَن لهم بالدخول على وزير، أو وَالٍ، ولكنْ يُؤْذن للأقلّية الحزبية المتسلّطة؛ فسأل الشاعرُ العربي الأصيل صديقَه: [كيف ترى ما أنت فيه من هذه الحكومة؟] فرد عليه قائلا:
أكثرُ خلقِ الله مَن لا يدري * مِن أيّ خلقِ الله حين يلقى
وحُلَّةٌ تُنْشَر ، ثم تُطْوى * وطَيْلسَانُ يُشْتَرى فيَغْلى
لعبدِ عبدٍ أو لمولى مولى * يا ويْح بَيْت المالِ ماذا يلقى.