طه لمخير
كانت الثورة الإسلامية عام 1979حدثا فريدا في التاريخ المعاصر أنهى حضارة عمرها 2500عام، ودشن بداية حكومة إسلامية شمولية مؤسسة على عقيدة ولاية الفقيه.
هكذا بدا المشهد مع الخميني وهو ينزل درجات سلم الطائرة الفرنسية قادما من منفاه في نوفلو لو شاتو) Neauphle-le-Château)في ضواحي باريس حيث قضى 112 يوما، لتتلقاه أمواج هادرة من الناس يموج بعضها في بعض تهتف باسم الإمام الإلاهي، المخلص الأعظم للشعب الفارسي، هكذا بدت الصورة أيضا لجوقة الإسلاميين الذين استلبهم المشهد الأسطوري ورقصت له أحشاؤهم، فأصبحوا و كثير منهم يعزف على أنغام ثورة إسلامية تُتَوِّجُه آيةً من آيات الله على رأس الدولة.
هكذا تتبدى حماسة ياسين وهيجانه أيضا للثورة في جل ما دونه من كتابات وآهات وأنّات في الحقبة الخمينية، سواء في المجلات التي أصدرها باسم الجماعة أو في مؤلفاته التي وضعها على نهج دروس وخطب وأشرطة الخميني التي كانت حجر الأساس التي عبأت الإيرانيين للثورة على الشاه.
لعل ياسين ظل دائما يحتفظ في مخيلته بتلك الصورة الخرافية للشعب الذي ينتظر مخلصه، الجماهير الزاحفة في الشوارع حاملة صوره على الأعناق مرددة اسمه في الشعارات، "ياسين الإمام المخلص…ياسين الغوث…إمامنا وقدوتنا"، بينما هو يقف وقفة البابا على شرفة القصر يلوح للجماهير بيديه يباركهم ويزكيهم ويصلي عليهم، وحوله الحواريون المبشرون بالجنة أعضاء مجلس الإرشاد وبين يديه "أمهات المؤمنين" "أخوات الآخرة"…نور على نور.
لكن الإسلاميين كعادتهم لا يقرؤون في الحدث إلا اللحظة ذاتها منزوعة من سياقها ويبنون عليها الوهم الذي يرونه قريبا، صُبحُ القومة الزاحفة، أليس صبحها بقريب؟، لا يبحثون في الأسباب، لا يحللون الواقع الذي أنتجها، يمضون وراء مشاعرهم وأحلامهم الصُّبحية، تخدعهم الدوغما التي يتعلقون بخِفافها، يتخيلون الملائكة التي ستحارب من أجلهم، يفترضون مسبقا أن السماء إلى جانبهم تؤيد مشروعهم وتمدهم بالمدد السماوي والغوث المتصل، ثم رغم خذلان السماء لهم طيلة أزيد من ثمانين حولا، لا يزالون يعلقون آمالهم هناك في مكان ما في الفضاء السرمدي يرقبون نجمة الفجر الزائف
وهكذا وقع ياسين المتحمس والمندفع بسَوْرة الثورة الإيرانية الوليدة في فخ اللحظة والصورة التبسيطية لواقع معقد، أخذ من الحدث صورته التي تملأ الجرائد والمجلات العالمية، إحدى الصور للخميني في حديقة منزله في القرية الفرنسية نشرتها ليبراسيون الفرنسية آنذاك؛ كانت كفيلة بأن تضفي على الرجل السحر والغموض الأسطوري الذي أصبح يجلل الرجل منذ مغادرته بغداد إلى باريس.
نقرأ في الصفحة الأولى للجريدة بالبنط العريض: "آية الله تحت أشجار التفاح"l’ayatollah sous les pommiers)) في الصورة يبدو الخميني وحيدا يؤدي صلاته خاشعا متواضعا تحت شجرة التفاح في حديقته، هذا الضعيف المشرد تشع من حوله هالة الإمام الحسين في اللحظة الكربلائية، يحرك في نفس اللحظة ملايين المتظاهرين في طهران رافعين صوره ومنادين بموت الشاه الذي أصبح يمثل الطغيان اليزيدي، الشاه الذي يتوج رأسه بتاج من اللؤلؤ واليواقيت والذهب منغمس في الشهوات إلى قُنَّة رأسه في مواجهة الإمام المضطهد الذي يمثل الخلاص الأبدي للشعب المعذب، تلك الصورة التي استمالت الجماهير لم يصنعها الخميني بقدر ما صنعتها أخطاء الشاه القاتلة.
لكن الحقيقة كانت بعيدة عن الأسطورة الدينية التي راجت في الإعلام، لم تكن الثورة في جوهرها وروحها ثورة رجال الدين لأجل الدين وإقامة نظام إسلامي، هذا تطور لحق بها في المحطات الأخيرة، وهذا ما لم يتنبه إليه ياسين الذي رهن مشروعه ومنهاجه بشعب يتطلع لمخلص معصوم له قداسة النبي وإمامته، المنقذ من الضلال والكفر يقيم دولة الله في أرض الله ويطهر الناس من رجس الطاغوت وحكم الطاغوت.
كان ياسين نفسا مركبة من الإنسان العادي والنبي الخارق، ذاتا من نور تتلقى الوحي الإلاهي مباشرة ومناولة من السدرة العصماء إلى قلب المعصوم، وكانت شخصية الخميني وطلابه تغذي في نفس أستاذ اللغة العربية تطلعات إلى صناعة الأسطورة، وما أكثر الأوهام التي يصدقها مجانين الميتافيزيقا عن أنفسهم في غمرة التأليه الجماهيري ومغناطيس السلطة التي تناديه أنْ هلُمَّ بك إلى الكرسي، جل أنصاف الآلهة في التاريخ خرجوا من جبة الغيب، يكذبون على الله لحكم بلاد الله.
سياق الثورة الإيرانية لم يكن سياقا دينيا يطبعه الصراع حول إقامة الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة؛ بل كان سياقا وطنيا قوميا بامتياز، كان الشعب يشعر بالإهانة في أعماق مشاعره القومية، إحساس جارف بفقدان الاستقلال الوطني وضياع الكبرياء القومي على الأرض القومية، كان الإيراني يبحث عن ذاته المستقلة عن نفوذ الأجنبي واستغلاله، يجد جذوره في الثورات التحررية من الاستغلال الأجنبي للثروات الإيرانية، والسيطرة الإمبريالية الغربية غلى السياسة والاقتصاد، وإهانة الشرف الوطني من خلال تحكمها في عملية إنتاج الشاهات الموالية للغرب على حساب المصالح الوطنية.
في عام 1906، قامت الثورة الدستورية ضد النظام القجري التقليدي، فدخلت إيران حقبة تأسيس الدولة المدنية الحديثة بإجراءات تغييرية جذرية لشكل الحكم وآلياته، أنشئ البرلمان، وظهرت المنابر الصحفية والحركات السياسية المختلفة التوجهات، انفتح البلد على أفكار جديدة لأشكال الحكم وإدارة الشأن العام ونقاش حيوي على رؤية حديثة لمستقبل إيران.
كان القصد الأساسي من هذه الثورة الدستورية هو التخلص من التبعية والتدخلات الإمبريالية لبريطانيا وروسيا، لكن هذه الثورة أجهضت في مهدها بعد وفاة مظفر الدين شاه الذي وقع على وثيقة الدستور عام 1906 وخلفه محمد علي شاه الذي ألغى العمل بالدستور وقصف البرلمان بالمدفعية بتأييد من البريطانيين والروس عام 1908، لكن ما لبثت القوات الموالية للدستور والحركات الإصلاحية أن نظمت مسيرة شعبية إلى طهران أجبرت محمد علي شاه بالتنازل عن الحكم إلى ابنه الشاب أحمد شاه قجر وإعادة العمل بالدستور عام 1909.
كان الإيرانيون يشعرون بالغبن والاستغلال الإمبريالي للثروات النفطية والزراعية لصالح الأجانب تحت غطاء حكم شمولي مطلق للشاهات، كان وجه الاحتلال الاقتصادي والسياسي المقنع غير خاف على الإيرانيين الإصلاحيين والوطنيين والعلماء وتجار البزار الذين شكلوا تحالفا ضد القوى الكبرى والفساد الذي استفحل في المؤسسة الشاهية والطبقة البرجوازية المنتفعة من سيطرة الأجانب على الموارد النفطية، والمداخيل الجمركية، وصناعة المنسوجات، والأراضي الزراعية بما فيها احتكار قطاع التبغ الذي كان يستهلكه عموم الإيرانيين بشراهة.
بينما كان الشاه مظفر الدين يراكم ثروة هائلة عن طريق الاقتراض والاستدانة و بيع أصول الدولة لتغطية الفوائد، كانت الثورة الدستورية قد خولت للمنتخبين المصادقة على جميع أنواع القروض وإجازتها، والإشراف على ميزانية الدولة، ظل هذا الاستغلال حتى إطاحة المجلس أو البرلمان بالشاه المنتمي إلى السلالة القاجرية وإحلال رضا خان الذي كان ضابطا في سلاح الفرسان، لكنه تم الإطاحة به أيضا عام 1941 من الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لعلاقته بالألمان، وتم تولية ابنه محمد رضا بهلوي آخر شاه في إيران.
واجه الشاه معارضة محمومة من طرف سياسي وطني محنك ذو شعبية جارفة هو محمد مصدق الذي كلفه البرلمان برئاسة الوزراء، و كان مدفوعا بإصرار محكم على إنهاء استغلال الأمريكيين والبريطانيين للثروات الإيرانية فقام عام 1953 بتأميم البترول، عارض الشاه هذا القرار وغادر البلاد إلى الغرب، ثم أعادته الولايات المتحدة بعد أن دبرت مخابراتها انقلابا عسكريا على مصدق، فعاد الشاه إلى إيران في صورة العائد على ضهر دبابة أمريكية مفروض على الشعب فرضا ضدا على الإرادة الشعبية من جهة أجنبية.
إن الوعي الجمعي يظل دائما محتفظا في ذاكرته بالأحداث والمواقف المؤثرة في تاريخه والممارسات السياسية غير المقبولة، ومع تقدم الزمن تصبح تلك التراكمات قوة نفسية ضاغطة، ووعيا راسخا لدى طبقات المجتمع، عدم القطع مع تلك الممارسات واستمراريتها في الزمن يُكَوّن إجماعا شعبيا على معاداتها، وفِي لحظة معينة تتكاثف فيها الأخطاء والمنزلقات تتحول إلى ثورة عارمة.
كان الإيرانيون يبحثون عن نظام يحقق لهم السيادة التامة على أرضهم ومقوماتهم القومية، قيادة وطنية قوية غير خاضعة للنفوذ الأجنبي، لم تكن السياسة اللائكية للشاه وما عرف بالشاهنشاهية وإحياء الهوية الفارسية وحركة تحديث المجتمع الإيراني وبنيته الثقافية وتحرير المرأة على غرار الأتاتوركية أو ما سماه الشاه بالثورة البيضاء- لم يكن ذلك مثار جدل وغضب إلا في أوساط رجال الدين والحوزات الوعظية، لكن أساس فقدان الشاه للشعبية هو انحيازه لمصالح القوى الإمبريالية على حساب مصلحة الشعب ومعارضته لسياسات مصدق الوطنية.
هنا استنزف الشاه رصيده لدى الوطنيين والعلمانيين و القوميين وطبقة المفكرين جميعا، واستجلب عداوة رجال الدين، إضافة إلى الحركات الماوية والماركسية من أنصار المعسكر الشرقي، فتوحدت قوى المعارضة من مختلف الأطياف ضد حكمه، ولم يبق أمامه سوى خيار القمع والاعتقال والاغتيالات التي اتسع مدارها بعد تأسيس جهاز القمع السافاك لتتحول إيران إلى دولة بوليسية مغلقة.
في الستينات قام الشاه بخطوة قاتلة أخرى تعزز صورته كعميل لدى الأمريكيين بعد أن وافق على إعطاء الحق للمقيمين الأمريكيين بالتحاكم الى القضاء القنصلي وتحصينهم من اَي محاكمات او متابعات من القضاء الإيراني مهما فعلوا.
في هذه الأثناء سطع نجم الخميني من قم كأبرز المعارضين للشاه، وازداد نفوذ الحوزات العلمية ورجال الدين بعد إنهاك الشاه للقوى العلمانية والوطنية واليسارية وسلط عليهم جهاز السافاك فأفنى بذرتهم، كان الخميني رجل دين مغمور إلى حدود عام 1964 عندما تجرأ دون غيره من المعارضين أن يعلن بأن الشاه أضاع الاستقلال الوطني وارتهن البلاد للأجانب، فنفي إلى العراق، وكان هذا مسمار آخر في نعش الشاه.
أصبح للخميني في النجف مساحة أكبر للتعبير ومنبر إقليمي يبلغ به صوته عاليا بعد أن كانت دعوته محصورة في تلامذته ومن يحضر دروسه في المدينة الشيعية المقدسة قم.
في النجف أيّد مذهب القائلين بنظرية ولاية الفقيه العامة والحاكم في زمن الغيبة(غيبة الإمام المعصوم) في الفقه الشيعي الإمامي، وجمعت تلك الدروس التي ألقاها في العراق في كتاب سماه الحكومة الإسلامية، حرر فيه فكر الإسلام السياسي الشيعي من عقدة الإمام الثاني عشر الغائب، وأجاز ولاية الفقيه.
وهو الكتاب الذي ألهم عبد السلام ياسين ووضعه على سكة السياسة بعد تركه سلك الدروشة إثر خلافه مع نجل الشيخ العباس حول وراثة الزاوية البودشيشية، حيث كتب بعد صدور الحكومة الإسلامية(1970) بسنتين أو ثلاث كتاب الإسلام بين الدولة والدعوة وكتاب الإسلام غدا.
والأهم من ذلك كله فيما يخص ثورة الخميني هو الأشرطة الكاسيت التي كانت تهرب إلى طهران بين الأمتعة والملابس، لقد كانت ثورة اتصالاتية كما وصفها بعض المراقبين الغربيين، فكانت تلك التسجيلات الصوتية تذاع على الملأ في ساحات إيران على مسمع المتظاهرين ضد الشاه.
كانت الحلقة المفصلية التي أفاضت الكأس وأخرجت الملايين إلى الشوارع وطبعت الحراك الشعبي بطابعه الديني متجاوزا دوافعه الوطنية والقومية التاريخية، وانتقلت من ثم الشرعية من الحركة العلمانية والقومية إلى التيار الديني الراديكالي؛ هو مقال نشره أحد مؤيدي الشاه في جريدة إطلاعات الإيرانية، وصف المقال الخميني بالشاذ جنسيا ومغتصب الأطفال نسبة إلى فتواه بمفاخذة الرضيعة في كتابه تحرير الوسيلة، وبأن أصوله هندية باعتبار جذوره الكاشميرية.
بعد ذلك قام الشاه بخطأ استراتيجي آخر بمطالبة صدام حسين بإخراج الخميني من إيران، اختار المحيطون بالخميني باريس حيث وسائل الاتصال متطورة وفسحة التعبير بلا حدود، خصوصا وأن الإيرانيين في ذلك الوقت كانوا معفيين من طلب التأشيرة لدخول فرنسا، فكان منزله في ضواحي باريس كعبة الأتباع والمحبين، وحجت إليه وسائل الإعلام الدولية، فتولى أمرها ترويكا من الذين درسوا في الغرب وتمرسوا على الأسلوب واللغة التي يستميلون بها الغربيين: بني صدر، وجودزاده، ويزدي، ثلاتي كان لهم أعظم الأثر في طمأنت الغرب والترويج للخميني كرجل دين منفتح ومصلح اجتماعي صديق للغرب، وأنه لا يمانع في تولي المرأة رئاسة الحكومة، في حين كان خطابه للداخل أكثر عنفا وتطرفا وراديكالية.
لم يقرأ ياسين في اللحظة التي ينزل فيها الخميني من الطائرة على يمينه ويساره رجلين معممين، سوى ما يقرؤه الوحش الضاري المتسلط في قطيع من الحملان الوديعة؛ الإفتراس والسيطرة تسكن الأضلاع ، يرى ياسين من منظوره الدوغمائي الضيق أن الشعب ثار ثورته الدينية أو بتعبيره المحبب قومته الإسلامية عن طريق الزحف الملاييني، لم ينظر في التاريخ الإيراني، لم يسبر الدوافع والأسباب، لم يكبد نفسه عناء التحليل الذي يخترق الظاهر في الصورة إلى خلفياتها ومنطلقاتها التي تشكل قلب تلك الثورة ووجدانها، فكانت كتبه ودعايته مبنية على مقدمات مغلوطة ودوافع سطحية آنية، وجاءت نظرته إلى الحدث مدخولة ومعيارية.
كان الخميني زعيم اللحظات الأخيرة، الرجل الذي جاء متأخرا وقطف الثمار بعد أن استوت ونضجت، لكنه لم يكن الزارع والباذر والراوي، إنه منطق التاريخ الذي كثيرا ما يهضم الحقوق ويضع الأحداث في غير سياقها وينسب الأسباب إلى غير مسبباتها، في عالم المسلمين لا يجني غلة الفوضى والثورات إلا الإسلاميون، على الأقل في الأزمنة الراهنة، أزمنة الجهل المركب.
بدا ياسين كالرجل الذي يسابق الزمن، يهرول هرولة نحو الزحف الملاييني والقومة الأسطورية، أكلت القومة ثمرته قبل أن يأكل ثمرتها، ظل يلهث خلفها لهثا، يسارع في التأليف وجمع الأتباع ومصانعة الفرقاء وعقد الأحلاف، يصطنع أعراضها اصطناعا، يرسم في مدوناته أجواءها مختلقة اختلاقا، ويتقمص التجربة الخمينية في النجف ونوفلو لو شاطو في فرنسا تقمصا مسرحيا، ثم مات وفِي نفسه شيء على الله وشيء على الناس وشيء سيبقى بينه وبين نفسه، فشل ذريع ومشروع هباء تكسر على واقع مختلف تماما وسياق مغاير.
لقد حاول جهده معالجة قومته بالأساليب والأدواة التي رآها جوهرية لتمثل الظاهرة الخمينية، كان لابد له أولا من شاهنشاهية محمد رضا بهلوي وثورته البيضاء، بمعنى كان ينبغي له أن ينجح في ترويج صورة الملك الكافر الذي خلع ربقة الإسلام وتجرد من ضروريات العقيدة، كان شاه إيران قد عقد العزم على القطع مع الدين وتجريد رجاله من سلطتهم المعنوية، فاتخذ قرارات جريئة في سبيل نشر اللائكية بلغ إلى حد أن ألغى القسم على القرآن الكريم عند تعيين رئيس الحكومة مثلا، وألغى امتيازات رجال الدين في الأراضي التي كانوا أكبر ملاكها والمستفيدين من ريعها، وكانت النساء في شوارع طهران لا تختلف في ملبسها عن قريناتهن في باريس ولندن ونيويورك.
بعث روح الحضارة الساسانية وهمش التقاليد التي تستمد أصولها من الإسلام وأقام احتفالات أسطورية بملايين الدولارات لتخليد ذكرى مرور 2500 عام على تأسيس أول امبراطورية فارسية، فكان اتهام رجال الدين للشاه بالخروج عن الإسلام لا ينكره أحد، ولكن ذلك لم يكن له تأثير خارج الأوساط الإسلامية ولم يظهر كفر الشاه كعامل أساسي في الإطاحة به إلا في المراحل الأخيرة عندما سيطرت التيارات الدينية على الشارع، واكتسح الخطاب الديني المظاهرات الشعبية وخاصة بين الشباب الثائر، فهو كافر بالنسبة للإسلاميين وخائن في عين الوطنيين وحليف للغرب الرأسمالي في نظر اليساريين.
بينما ياسين كان ينبغي له أن يحتال لتكفير الحسن الثاني بشتى وسائل التأويل وتشريح الدواخل والنيات وتعقب السقطات، كان لابد من خلق شرط الكفر خلقا بأي وسيلة حتى تكون لدعوته شرعية بين الإسلاميين والملتزمين خاصة وعموم الجماهير التي تدين بالإسلام.
نموذج من هذا الإصرار على صناعة الملك الكافر المستخف بثوابت الدين، نقرأه في كتابه حوار الماضي والمستقبل، ذهب فيه الرجل يتصيد العبارات والجمل التي تحدث بها الحسن الثاني متفرقة في الصحف والجرائد والمجلات الغربية واللقاءات الصحفية للملك مع صحفيين فرنسيين، سنلاحظ كيف يتعب الرجل في إخراج الملك من الإسلام حتى بالتعبيرات البلاغية والتشبيهات المجازية التي يراعي فيها الملك حال المخاطب، فيستعمل ألفاظا وتعابير تقرب المعنى للمخاطب الغربي باللغة والمصطلحات التي يفهمها الصحفي الفرنسي مثلا في ثقافته، فيتلقفها ياسين ويجعلها أمارة على كفر الحسن و دليلا على فساد عقيدته يقول:
"قُبيل رحلته إلى فرنسا شهر مايو 1996 بتاريخ النصارى، صرح في استجواب صحفي أنّ حكمه وحكمَ ملوك دولته يجمع بين السيف والكوبيون.
«الكوبيون» مِرَشَّةٌ يرش بها الكاهن الماء «المقدس» على الوليد والوليدة من أبناء النصارى وبناتهم، يسمون الرّش تعميدا.
استعمال «أمير المؤمنين» للفظة الكَنسية يدفع إلى السطح القاعدة التصورية والمخزون الثقافي في ذهنية من ربته مربيات أوربيات منذ إهلاله، وغذته لغة «الكوبيون» وثقافة اجتماع السيف الملكي مع المِرَشَّةِ الكنَسِيَّةِ على تأسيسِ قَمع الدولة وهيبة القداسة. الأمر كله طقوس".
نرى التجني والمزايدة بل والإسراف في تقييم لفظة كوبيون وتحميلها ما لا تحتمله، لكن لابد له من ذلك ليقول للناس إن الملك "المُغَرَّب" أصابته لوثة تبشيرية بعد أن دخل الشيخ ذي الخوارق والكرامات في اختراق الجدران إلى القصر وشاهد مربيات الملك الأوروبيات وهن يُدخلن في رأس الملك وذهنيته وثقافته الدينية مفاهيم الكوبيون ومتعلقاته، وربما تم تعميده في دير من أديرة القصر أيضا وبحضور قساوسة من الفاتيكان، لم لا؟ ما دام الأمر بالظنون و التجني المجاني والتخمينات المرسلة، في الحقيقة جواب الملك كان حكيما وبليغا أيضا، لأنه يخاطب أناسا غير مسلمين لا يعرفون المسبحة مثلا؛ فكان من تمام البلاغة أن يستعمل رديفا معنويا للفظة في لغة المخاطبين.
كما أن استعمال ما سماه ياسين "لفظة الكنيسة" لا يعني بالضرورة أن الحسن الثاني أخذها في دروس الدين والرهبنة عن المربيات الأوروبيات كما يسميهن، بل لا يعدو الأمر سعة الاطلاع وحب الثقافة والانفتاح على أكثر من مصدر من مصادر المعرفة والتلقي، والملك مشهود له بسعة العلم ورسوخ القدم شئنا أم أبينا، لكن الشيخ مصر على صناعة الكفر لغاية في نفسه.
يستمر ياسين في هذا الآسلوب المغرض الخبيث فيقول من نفس الكتاب: "سأله صحافي مجلة «باري ماتش» عن الإشاعات التي تتحدث عن تدهور صحته. فيجيبُ : ويا خيبةَ الجواب! غيرَ آبه بأن الكلمةَ شِركٌ صارخ. قال : «أشْكر يدَ الله وأشكر الجنّياتِ السبْعَ اللواتي انْحنَيْنَ على مَهدي»، يشكرهن على سلامة صحته".
وبغض النظر عن غمز الملك بالشرك في تعبير مجازي يحمل من روح الدعابة والملاطفة ما هو معروف في خطاب الملوك والرؤساء والمثقفين والشخصيات العامة، وهو أسلوب جمالي معهود لإضفاء لون من السحر الأدبي والرمزية على الحوار، والابتعاد عن جفاف اللفظ و صلابة الأجوبة المباشرة- فإن تهمة الشرك ارتبطت بالشيخ ياسين أكثر من غيره في المغرب، واتهمته بالشعوذة والشركيات شريحة واسعة من رفاق دربه من الإسلاميين، لما عرف عنه من ميول إلى التصوف الإشاري وانهماكه بكتب ابن عربي والشعراني وبديع الزمان النورسي والقائلين بوحدة الوجود والاستغاثة بالأولياء، وهي العدوى التي نقلها إلى مريديه الذين باتوا يعتقدون أن الرجل هو الغوث والقطب وظل من ظلال الله في الأرض.
نقرأ أيضا في ذات المصدر يصف الحسن الثاني:
"ينطق لسان المغرّب المخلط على سجيته حين يخاطب نُظراءه الغربيين، ينطق بالطوامِّ الهوامّ. ينطق بكلمات هي الشرك بالله، والاستهزاء بدين الله، والطعن الطائش الخبيث في ذات الله -جل الله- وأستغفر الله".
ورغم أن اللسان المغرب –ويا للمفارقة التي تبين مدى اختلاط الرجل وتناقضه- ينطبق بتمامه على كريمته ندية ياسين، فهي داخلة في صنف المغربين المخلطين، فرغم لومه على من يسميهم الطبقة الفرانكوفونية المغربة وإزراؤه بثقافتهم وأسلوب حياتهم، فإنه لم يجد بدا من تسجيل كريمته في مدارس البعثة الفرنسية في ليسي ديكارت بالرباط أحد معاهد النخبة الرائدة في "التغريب" ثم بعد ذلك في ثانوية فيكتور هيجو بمراكش، تنهل مما ينهلون وتدرس الفلسفات الوجودية والمناهج التطورية العقلانية التي يدرسون.
طبعا يحل لابنته ما يحرم على غيرها، منطق الشيخ المعياري طبعا أفعلُ "المنكر" وأنهى عن فعله، أدرس اللغات الأجنبية وأنهى غيري عن دراستها، أطلع وأثقف نفسي وأهلي وأمنع العامة من نفس الحق في العلم والمعرفة، فليس في مصلحته أن يخاطب جمعا يقرأ، لأن مريدا يقرأ لبودلير وسارتر وشكسبير ونيتشه وكافكا وطه حسين، لن يكون بمثابة مريد يقرأ للشيخ نفسه وللمودودي والندوي وقطب وسعيد حوى، الأول سوف يطرح السؤال ويجادل فيه، ثم لا يلبث أن يفارق إسطبلات الشيخ "التربوية" و شعوذاته الإنذارية إلى نور العلم الحق، والثاني يسمع ويطيع كالآلة الخرساء إلى العلم اللدني.
فشل الشيخ فشلا محبِطا في صناعة الملك الكافر لاعتبارات ذاتية و موضوعية تتعلق بشخصية الملك المختلفة عن الشاه، والسياسة الدينية التي انتهجها الحسن الثاني، كان هذا الأخير داهية ماكرا، لم يكن ليسلم مقاليد الإسلام وإمارة المؤمنين ويتخلى عنها في مجتمع يغص بالمتدينين والمتربصين بالشُّبه والسقطات، كان الإسلام بالنسبة للحسن الثاني سيفا ذو حدين، فحد يضرب به شرعية الحركات الإسلامية وحد يشدخ به رؤوس الماركسية والماوية…ونجح في ذلك إلى أبعد الحدود، وظل ياسين يراوح مكانه في دعوته تلك لا يلتقيه فيها إلا من جاء في ما بعد يحمل دعوة تكفيرية شاملة للحاكم والمجتمع وهي السلفية الجهادية والإخوانية القطبية.
مظهر آخر من مظاهر الخمينية في حياة عبد السلام الياسين هو طلبه الشديد لأذية الملك، وحرصه المتمكن في إثارته ضده، كان عندما اتخذ قراره بكتابة رسالة "الإسلام أو الطوفان" يقصد بها الإعلان عن نفسه للشعب أكثر من توجيه النصيحة للملك، فرقعة إعلامية تجلب إليه الأنظار وتلفت إليه الانتباه، يقول للناس من خلال الملك "أنا هنا"، ولذلك عمل على تعميم الرسالة وطبع عدة نسخ منها أرسلت لجهات مختلفة ، لقد نجح ياسين بالفعل في خلق ظاهرته في مجتمع كان يستعظم مخاطبة الملك بتلك الدرجة من المصارحة والصرامة، واقتنص لنفسه شعبية بين المناضلين والمعارضين لحكم الحسن الثاني من مختلف المشارب، وتحلقت حوله حفنة معتبرة من الأتباع المبهورين بهذا الذي تجرأ على الملك بكلام جاف وقاسي في أوج سنوات الرصاص.
لكن الرسالة في حد ذاتها لمن قرأها بعيدا عن أجواء الانبهار والتهويل، ليس فيها ما يجعل حياة عبد السلام ياسين في خطر، فهو يخاطبه مستفتحا "بيا حبيبي يا حفيد رسول الله"، وهو يعلم أن الملك ينهل مثله من مصادر تراثية تقيم اعتبارا واحتراما إلى القائم بالنصيحة للسلطان، قد يبطش الحسن بمن يهدد ملكه تهديدا مباشرا، لكنه يقيم اعتبارا أخلاقيا لمن نصحه في الدين واستجار بالنسب النبوي بين يدي الرسالة، ولذلك كان مستبعدا أن يتجاوز الملك في الرد حدود السجن أو الإقامة الجبرية وهو فعلا ما كان، إضافة إلى التقاء الرجلين لدى مصب روحي واحد يجله الملك وهو الطريقة الصوفية البودشيشية وما لذلك من رمزية روحية ورابطة قدسية.
لكن الحسن الثاني لم ينف الشيخ بل "رقَّدَه" وخلّلَله، وألزمه بيته، لم يسبق للحسن الثاني أن تناول قضية ياسين في أي لقاء أو خطبة، لم يعامله معاملة مختلفة عن باقي المعارضين في عصره، بخلاف الشاه في إيران الذي أتى على ذكر الخميني في خطبه وانتقده بالإسم، فكان ذلك دعاية له من أعلى الهرم، و سببا في انتشار ذكره إلى أبعد مدى في إيران، ثم سجنه وإطلاق سراحه تحت الضغط الشعبي انتهاء بنفيه عن إيران.
كان الإيرانيون يَرَوْن نفي رجل دين من موطنه يعارض تدخلات الأمريكيين ونفوذهم هو دليل على أن الولايات المتحدة تتحكم في مصائرهم، وعدّوا ذلك إهانة موجهة مباشرة لمشاعرهم الوطنية وكبريائهم القومي، عندها تحول الخميني إلى أيقونة الثورة وأصبح فكره ونظرياته الثيولوجية دستورا لها ومنهاجا، هنا يظهر الفرق بين الملك والشاه، ويتجلى لنا أن الشخصيات الأسطورية تصنع ولا تولد وأن مقالا أو خطبة أو كلمة عابرة في غير محلها قد يكون لها نتائج وخيمة، لقد أطفأ الحسن الثاني جذوة ياسين على مكث وتركه يستوي على نار هادئة يحرق نفسه بنفسه.
مع مرور الوقت بدأت حماسة الشيخ لقومة فورية عفوية تخبو وتنكمش، وأدرك أن الواقع في المغرب لا يوفر مناخا خمينيا يسمح بنمو سريع لبكتيريا القومة، خاصة مع وجود منافسين له على الساحة الإسلامية يتطلعون لنفس الموقع تحت أشجار التفاح، فاتجه إلى التنظير والتركيز على خلق ذلك المناخ عن طريق بناء جماعة القومة وشعبه المختار الذي سيحقق به قيام الدولة الخلافية من خلال التربية الأيديولوجية العدوانية والتنظيم الحركي الذي سيتوج بالزحف الملاييني، فكان كتاب المنهاج النبوي الذي ينظر فيه لقومته الخاصة على مكث.
ورغم أن الرجل انفتح مرغما في السنوات الأخير قبل وفاته على تيارات مختلفة ممن سماهم الفضلاء الديمقراطيين، وحاور الأمازيغي والليبرالي واليساري، فإن كثيرا من الذين وجه إليهم الشيخ خطابه التقاربي أدركوا أن الرجل يحاول فك العزلة التي رمى نفسه وجماعته فيها ورسخها جموده على نموذج الخلاص الخميني، وعكوفه على أصنام الدوغما، واستعماله نفس الخطاب واللغة مع نظام مخزني جديد تقوده روح التغيير المستمر والمرونة، وإرادة ملكية في تعزيز المشاركة السياسية والانتقال الديموقراطي، واتساع مطرد لمساحات القول والتفاعل الديموقراطي، وانتعاش مشهود لمناخ الحريات وتحديث العقلية المخزنية، وهو ما أفرغ محتوى الخطاب العدمي الياسيني من كل جدوى وجرده من كل مصداقية.
لقد وضع ياسين بنية جماعته على أساس القدرة على العيش تحت نظام قمعي يكون وقود دينامية حية و مستمرة، تنتعش الجماعة في أجواء القمع والملاحقات، تمتد إليها الأيادي بالدعم والمواساة، تقتات على الأزمات والكوارث الشعبية، تروج بضاعتها في أسواق الكرب و البلاء ولحظات الضعف والنقمة، لكنها تنكمش وتذبل وتتلاشى في دولة إصلاحية توسع مجال الحريات، وتفسح للمتكلمين والمعارضين مجالا مغريا للقول والتفاعل.
في المقابل نجد خطاب العصى الذي ميز ياسين السبعينات وياسين الثمانينات لِنَقُلْ ياسين الخميني؛ خطاب الحرابة والعنت والدماء، تحول -بعد السياسة الإهمالية للعهد الجديد ويمكن تلخيصها في عبارة "قل ما تشاء"- تحول إلى خطاب الجزرة، خطاب الحوار والتلاقي على المشترك الجامع، و طرح الخلافات، والقبول بالآخر، أو ما يمكنه تسميته بتدجين القومة، وتطعيمها بعناصر هجينة تتنازل فيها الجماعة عن جزء من طهرانيتها وتقبل بالتعامل والتلاقي مع الذوات المذمومة في أصل المنهاج باعتبارها ذوات مغربة مقاتلة للإسلام.
هو تكتيك تراثي قديم مبني على المبدأ التراثي "الحرب خدعة"، ونجد ياسين في كتبه يرسخ معنى الجماعة المحاربة في فضاء القول والمعنى والعدوان اللفظي، مادامت وسائل القوة المادية بيد المخزن الذي يصفه ياسين "بالعدو" كمصطلح حربي لتكريس نَفَس الهيجاء وغبارها في نفوس الأتباع الذين يسبغ عليهم وصف "جند الله" وهو بدوره وصف يمد المعنى الحربي بمزيد من معاني المناجزة والقتال في الترسانة اللغوية العسكرية التي ينتخبها ياسين من قاموسه الحربي كقائد الملحمة وقارع طبولها.
بحسب ياسين، على الجماعة أن تدرك أنها دائما في حِرابة مع الدولة ومن يسميهم بالطوائف المقاتلة للإسلام المرتدين عن الدين، فهو يكفر بالمواطنة يُسفّه وجوه الدولة المدنية من مؤسسات وجمعيات ومجتمع مدني، نقرأ لياسين: يشترط قانون إنشاء الجمعيات في المغرب أن يُفتح باب العضوية أمام كل المواطنين المغاربة بدون ميز من حيث الدين أو العُنصر أو الإقليم أو اللغة. أي أن يكون الحزب السياسي والجمعية تكتلا لاييكيا لكل «المواطنين» المواطنة الشرط الأول والأخير. والدين الذي يحمي حماه «أمير المؤمنين» هو دين الحرية البريئة من كل قيد إسلامي أو ضابط شرعي" (حوار الماضي والمستقبل).
لقد ظن الحقوقيون واليساريون والليبراليون والقوميون أن الخميني سيفسح لهم حيزا في دولته الدينية، لقد كانوا واهمين، الترويكا التي كانت أثافي الدعاية للثورة الاسلامية أثناء مقام الخميني في باريس وساهم أفرادها ذوو التوجهات الوطنية والعلمانية في تلميع صورة الإمام وأريحيته المدخولة تجاه الثقافة الغربية، كانت تنتظرهم مصائر قاتمة بعد عودتهم مع الخميني إلى إيران.
لقد أعدم "غودزاده" الذي كان واجهة الخميني المتمدنة والأنيقة أمام وسائل الإعلام الغربية، وألقي ب"يزدي"عقل الإمام التعبوي والدعائي في السجن، ولجأ "بني صدر" المخطط الاستراتيجي إلى أوروبا، أما اليساريون والليبراليون وجمهرة الديموقراطيين في الداخل؛ فقد استفرد بهم تلامذة الإمام الذين شكلوا نواة الحرس الثوري وأوقعوا بهم أشد المذابح الجماعية ونصبوا لهم المشانق في ميادين الثورة، ولم يرثوا من عهد الشاه إلا جهازه القمعي السافاك.
تذكر سجلات الثورة السوداء أن الخميني أصدر فتواه بإعدام ثلاثين ألف معارض من بينهم قاصرين لا يتعدون حدود 13 ربيعا، وقبيل وفاته أصدر فتواه بإهدار دم سلمان رشدي، قُتِل على إثرها اثنان ممن ترجموا كتابه الشهير.
ماذا خلف ياسين وراءه؟ عندما نحفر يسيرا تحت مباني وهياكل الجماعة التي تركها ياسين ينخر فيها دود الفساد والشعوذة ومضى، وترك فيها بذار الهمجية المعنوية والمادية، خلف الواجهة الحوارية التي ترفعها اليوم الجماعة من أعلى هرمها التنظيمي دون أدناه، خلف الندوات التقاربية وملتقيات تذكارات "الإمام"، وما وراء الأيام التعارفية الرومنطيقية المفتوحة، خلف أستار التسامح والتوافق والمجاملات المتبادلة مع اليسار واليمين وما تخفيه صورة "الإمام تحت شجرة التفاح".
خلف كل ذلك وتحت حفريات المباني الظاهرة ترقد الخلايا الإرهابية النائمة في أحضان الكلمات الحديدية وزُبُر الألفاظ والتعابير العنيفة والمعنّفة والأوامر الجبرية المستكبرة والمستهترة بالحريات الإرادية والفكرية للأفراد والمجتمعات، يتجلى فيها ياسين في جبته الخمينية القاتمة يتحرك في فلك الخلافة والإمامة العظمى يطوف حوله جند الله يهمهمون ويزمجرون، يداور الألفاظ والمعاني ويدور ثم يدور ليعود إلى حديث الكرسي والسلطة، مهما حاورك ياسين بلسان أتباعه اليوم، فهو لا يحاورك إلا ليصل بك وبغيرك إلى لحظة نزول الخميني من الطائرة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.