آية الأتاسي
هل أنت من إيران؟ سألني شاب قبل سنوات في دورة تعلم اللغة في ألمانيا، أجبته بجفاء، إن كان يراني بشادور ليطرح عليَّ سؤال كهذا، فما كان منه إلا أن أجابني ببساطة مطلقة أنه من إيران ووجهي ذكره ببلاده.
كانت هذه هي المرة الأولى التي اكتشف فيها إيران خارج كليشه النساء المتشحات بالسواد والرجال الملتحين، الذين كنت أراهم يزورون المقدسات الشيعية في سوريا فترة التسعينيات. وبعد أن تعرفت أكثر على هذا الشاب وعلى إيرانيين آخرين في أوروبا، خجلت من سذاجتي التي تختصر حضارة عمرها آلاف السنين بثلاثين سنة عمر «الثورة الإسلامية» وخجلت من أحكامي المسبقة تجاه شعب عظيم، غير مسؤول في غالبيته عن أخطاء حكامه وسياستهم الخارجية، هذا إن لم يكن ضحية لها أيضاً.
أما اكتشافي الأجمل لهذا البلد فكان من خلال السينما الإيرانية، التي تتحايل على الرقابة بذكاء وجمالية، مستفزة بعمق مخيلة المشاهد وجاعلة منه مشاركاً فاعلاً في العمل. كثيرة هي أسماء المخرجين الإيرانيين الذين أنجزوا من داخل إيران أهم الأفلام السينمائية، أمثال كورستامي ومجيدي وبناهي…الخ، ولكنني أرغب بالكتابة عن مخرجة تعيش في الخارج، ولا تحتاج للترميز من أجل التحايل على مقص الرقيب، بل تعري نظام الملالي بجرأة، من دون أن تفقد ذرة واحدة من عشقها لبلدها وثقافتها، تلك هي مرجان سترابي: سترابي دخلت الإخراج من عالم القصص المصورة، عندما حولت سيرتها الشخصية من كتاب قصص مصورة إلى فيلم الصور المتحركة «بيرسيبوليس» الفيلم شهادة شخصية لامرأة تروي من خلال سيرتها سيرة بلد كان يدعى «بيرسيبوليس» وصار اليوم «إيران». لجأت سترابي إلى الرسوم، كما تقول، لأنه فن تجريدي حيادي، يجعل المتلقي مهما كانت جنسيته يتماهى مع الصورة المتحركة، خاصة إن كانت هذه الصورة ضاحكة ومتهكمة كما هي قصص سترابي المصورة، فحتى لحظات الحزن الأسود لا تتركها تطول وتثقل الروح، فتتبعها مباشرة بمشهد ضاحك وساخر. ولهذا الحس الفكاهي يعود ربما نجاح فيلمها عالمياً، فالضحك لغة مشتركة بيننا جميعاً ولا تحتاج إلى ترجمة، فعندما نضحك معاً نتقاسم حالة حميمية، تنهار فيها في لحظة كل الحواجز وتختصر المسافات.
أعترف بأن مشاهدتي لفيلم «بيرسيبوليس» جعلتني أقطع المسافة التي تفصلني مكانياً عن طهران في زمن قياسي هو مدة عرض الفيلم، لوهلة تخيلت أنني مرجان الصغيرة، ولوهلة كانت طهران 1979 هي دمشق 2013، الحلم نفسه بالحرية والانعتاق من الاستبداد، فرحة والد مرجان وهو يرفعها عالياً صارخاً: إنها لحظة تاريخية يا صغيرتي، تشبه فرحتنا جميعاً كسوريين لحظة اندلاع الثورة السوريا، والحلم الكبير الذي بدا لوهلة ممكناً ومتاحاً…
ثم تحضر في الفيلم كما في الواقع خيبة الأمل وانكسار الحلم، عندما يتم استبدال استبداد الشاه السياسي باستبداد آخر ديني، ولكن بمضمون قمعي واحد. هنا أيضاً خيبة تشبه خيبتنا كسوريين بعد أن تحولت أحلامنا إلى كوابيس مظلمة، وصارت بلادنا ساحة لصراعات قوى لا تعنيها بشيء حريتنا ولا مطالبنا المشروعة بالديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية.
ورغم أن مرجان في كل هذا تتقاطع معنا جميعاً كأبناء لأنظمة قمعية، لكنني سأسمح لنفسي بجانب شخصي وخاص يجمعني بمرجان كطفلة تكتشف السياسة والسجن رغم أنفها، فجدها زعيم سياسي من سلالة القاجار، ووالداها ناشطان سياسيان في صفوف اليسار، ستفهم مرجان باكراً، كما تقول، إنها ليست فتاة عادية، وربما ستفهم متأخراُ أن الاختلاف هذا هو نقمتها أيضاً. فتكتشف مع اعتقال العم آنوش، أن السجن قد يكون للأخيار أيضاً، وعندما تزوره في السجن لأول وآخر مرة، ستفهم معنى الفقد والوجع، بعدها سيعدم العم ولا يبقى منه إلا رفات منسي في سنتيمترات قليلة من قبر جماعي في الباحة الخلفية للسجن، وبطة من الخبز الجاف صنعها لقريبته الصغيرة لتحتفظ بها وتحتفظ بحكايته، كذاكرة حية للعائلة.
ميراث مرجان من عمها، يشبه ما ورثته شخصياً من أبي المعتقل السياسي، محفظة صغيرة من الخرز وقبر حجري على أطراف حمص، وقبر مجازي لم أره يوماً بمساحة زنزانة التهمت سنوات سجنه الاثنتين والعشرين. وكما مرجان، هما ميراثي وذاكرة عائلتي الشخصية، ولا أتنازل عنهما أبداً.
وعندما تدخل مرجان «المراهقة» في زمن الثمانينيات من القرن الماضي، تبقى قريبة منا، نحن أبناء الأنظمة الديكتاتورية في شبه عزلتنا عن العالم. وكما هي، كنا نبحث في زمن لم يكن فيه لا انترنت ولا فضائيات، عن آخر الأخبار والأغاني وصيحات الموضة سراً كمن يبحث عن مواد محرمة أو مهربة. ويستمر التماهي مع «مرجان» عبر الفيلم والزمن، عندما تختار الهجرة كخيار أخير، في بلاد تقنن حتى الهواء على سكانها. فترحل وفي جعبتها آخر جملة نطقها والدها: لا تنسي أبداً من أنت ومن أين جئت…
في أوروبا ستبدأ رحلة اكتشاف جديدة لذاتها ووطنها، سيكون مستحيلاً عليها في البداية أن تغير صورة إيران وصورتها في عيون الأوروبي، فإيران هناك هي اللحى والشادور والعمائم والسلاح النووي. وستكره صورتها وبلادها لوهلة، وتبحث عن التماهي مع الآخر وستنجح في الظاهر ولكن في العمق هناك شيء في الروح كالندبة يجعلها دائماً غريبة رغماً عنها.
وستعرف الحب وتصاب بخيبة تكاد تقضي عليها، لتقول متهكمة على لسان صورتها المتحركة في الفيلم: نجوت من ثورة وحرب وكادت قصة حب فاشلة أن تقضي عليّ، لكنها عندما تستيقظ في المستشفى بعد فترة غيبوبة قصيرة، ويسألها الطبيب عن عنوان سكنها الحالي: تجيب من دون تفكير بأنه في إيران…
وبعدها تعود كامرأة لبلاد غادرتها يوماً كمراهقة، ولتكتشف من جديد استحالة العيش في بلاد تحرم الحب والموسيقى والفرح على سكانها، فتغادر للمرة الثانية ولكن ممتلئة أكثر من أي وقت مضى بحب هذه البلاد المستحيلة، وهذه المرة ستحمل معها جملة أمها الأخيرة:
غادري، فإيران اليوم ليست لك…
وتغادر بلا عودة مرتقبة، وستكون المرة الأخيرة التي ترى فيها جدتها، التي ترحل عن الحياة بعد رحيلها عن طهران، وستكون المرة الأخيرة التي تشم فيها رائحة الجدة العابقة بالياسمين.
وينتهي الفيلم بأزهار الياسمين تتساقط كالستارة معلنة نهايته، وأنا أرى الياسمين يملأ الشاشة، تساءلت هل كانت دمشق تعبق حقاً بالياسمين أم هي رائحة الشوق التي تجعلنا نشم الياسمين قادماً من الذاكرة على هيئة أوطاننا أو جداتنا الراحلات…
مرجان في غربتها واغترابها، في حنينها وبحثها عن الماضي وفي اكتشافها لمعنى الهوية، تشبهنا جميعاً نحن المنفيين الباحثين على الأقل عن سماء تشبه زرقة السماء هناك في بلادنا. وكأن الفن هو الجواز الروحي الذي يجعلنا مواطنين في عالم طوباوي جميل لا جنسيات ولا أديان ولا ألوان تفرق بين مواطنيه أو بالأحرى عشاقه.
بعد هذا الفيلم المميز «بيرسيبوليس»، لم تتوقف سترابي عن سرد حكاية إيران، فقدمت فيلماً آخر ولكن هذه المرة بممثلين حقيقيين لا برسوم متحركة، مستعينة بذاكرتها وبأرشيفها العائلي، ومستوحية من حكاية عم أكبر لها قصة حب إيرانية غير تقليدية.
اختارت سترابي زمناً مغايراً للقصة هو خمسينيات القرن الماضي وبعد إزاحة مصدق، الأب الروحي لإيران الحرة، زمن يأس عام تعيشه إيران ويأس خاص يعيشه البطل في الفيلم، بعد أن كسر الكمان الذي كان يعزف عليه نوتات حبه المفقود، فيختار طوعاً أن يموت وكأنه شبع من الحياة، وحتى طبقه المفضل «دجاج بالخوخ» يفقد الشهية له، ومن هنا جاء اسم الفيلم «دجاج بالخوخ» وكأنها شهوة الحياة التي تذبل عندما يتوقف الحب، فهو إكسيرها ومعناها.
هكذا أرادت سترابي أن تقدم إيران، بلد يموت فيه رجل من الحب، صورة مغايرة تماماً لما يقدمه لنا الإعلام عن رجال يموتون غارقين بالدم، رجال بلحى ووجوه قاسية حتى نخال أنهم بلا قلوب. هنا يأتي فيلم كـ»دجاج بالخوخ» ليقدم لنا إيران أخرى، إيران زمن مضى ولكنها من لحم ودم وروح حقيقية… بل يمكن اعتبار نسخة سترابي عن بلدها رغم اختلاط المتخيل بالمعاش أكثر صدقاً وواقعية من كثير من الكليشيهات التي تقدم لنا عن ذلك البلد الشرق الأوسطي القريب. من دون أن ينفي هذا طبعاً وجود «إيران الموازية»، إيران ولاية الفقيه وشرطة الأخلاق والحرس الثوري، وإيران التي تقاتل إلى جانب أنظمة قمعية ضد شعوبها الثائرة… ورغم القمع الوحشي للثورة الخضراء، مازالت شوارع إيران تحتفظ بدماء وآثار أقدام شباب الثورة الإيرانية ووشاحاتهم الخضراء، وما زال الكثير ممن بقي حياً منهم يقاوم ويتمرد على رقابة تفرض الحجاب وتحرم حرية التعبير والحب والغناء والرقص، ومازالوا يستطيعون أن يخلقوا فسحات حرية، حيث يتجمعون في أماكن نائية ليرقصوا ويغنوا ويتحدوا المحرم والممنوع. هؤلاء هم إيران أيضاً، بل هم وجه إيران التي نحب، هؤلاء هم الأقرب لنا ليس جغرافياً فقط، بل ماضياً ومستقبلاً، فطغاتنا يتقاسمون مغانمهم من دمائنا وعلينا أن نتقاسم نحن الجهد والأمل، فحريتنا معهم وبهم واحدة لا تتجزأ.