طه لمخير
يتصارع على المغاربة اليوم صنفان من اللئام، الحركات الإسلامية، و بيادق نشطاء حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني(مع الحذر من التعميم)، كلا الفريقين بعضهم عدو لبعض، لكن يجمعهم في رقعة اللعبة أمران بارزان هما عَصب حياتهما وزند دعوتهما، "المخزن" والغرب.
تقوم استراتيجية هذين الصنفين على الترويج للعدمية واستغلال الأزمات الداخلية لابتزاز الدولة واستجلاب الدعم النقدي والمعنوي من الخارج، فقد أصبح الانضمام إلى تيار الإسلاميين أو الدخول في جوقة الحقوقيين سبيلا لتصريف البطالة والتحلي بلبوس المعارضة والنضال.
ويخطئ من يظن أن نشطاء حقوق الإنسان يؤدون دورا إنسانيا تطوعيا، بل إنهم موظفون يتقاضون أجورهم نظير الأنشطة والخدمات الموصوفة، ويعلمون جيدا أن نسبة الصبيب المادي يعتمد بشكل أساسي على مناكفة النظام والجرأة في النقد والتطاول الاستفزازي، لذلك نجدهم يتجشمون المشاركة الدائمة في الاحتجاجات على اختلاف دوافعها، والدعم الأتوماتيكي لأي فعل سياسي معارض بغض النظر عن دوافعه الأخلاقية أو ميوله العدوانية. وكلمة السر للعمل في إطار هذه الجمعيات أن تتحقق في الناشط نزعة العدمية والمعارضة على طول الخط.
في العادة يدفع كلا التيارين وبالأخص الإسلامي عنه تهمة التعامل مع الغرب، بينما لا تكف الدراسات الصادرة عن المعاهد ومراكز البحوث الغربية عن فضح لقاءاتهم المتصلة مع الأمريكيين والأوروبين منذ بداية العقد الأول من هذا القرن مع إدارة جورج بوش، ثم تزايدت وتيرة الاتصال معهم خلال فترة الرئيس أوباما وبعد أحداث"الربيع العربي"، سواء بوساطة من السفارة الأمريكية أو من خلال المنظمات الأمريكية غير الحكومية NGO.
ورغم أن السلطات في المغرب حريصة على مراقبة هذه التحركات الأمريكية في الوسط السياسي المغربي بما يحفظ الأمن القومي والسيادة الوطنية، فإن الضغوط الأمريكية التي تمارس من خلف ستار تفسر لنا أسباب تغول الأفراد والجماعات على الدولة في إطار لا يخدم إلا منفعة التيار الأصولي الذي لا يُؤْمِن في جوهر فكره السياسي لا بديموقراطية ولا يحزنون.
ورغم أن الولايات المتحدة لا تبحث إلا عن مصلحتها وحمايتها نفسها من الإرهاب في ما يخص اتصالها بهذه الجهات التي تراها قادرة على الضغط على النظام لتعزيز الديموقراطية، فإن التعاطي الأمريكي مع الظاهرة الإسلامية عموما ضَل دوما مفتقرا إلى دراسة بنية المجتمع المغربي وتجاذباته، وحيثياته الاثنوغرافية وطبيعة الحركة الإسلامويةIslamisme.
مع سقوط الخطاب الاستشراقي بعد الضربات البنيوية التي تلقاها على يد ادوارد سعيد في كتابه الاستشراق، وقبله المفكر اليساري أنور عبد الملك في الورقة التي عنونها "بالاستشراق في أزمة" ونشرت في مجلة DIOGENES في الستينات، فإن الغربيين والأمريكيين خاصة بعد انكماش المد الكولونيالي وظهور الحركات الوطنية والقومية في العالم العربي- لم يبلوروا أي تصور أكاديمي لحقيقة الإسلام السياسي، وظلت النظرة الغربية إلى هذا النوع من الإسلام الحركي يشوبها كثير من الضبابية والارتجال.
لقد كان أول لقاء بين الغرب والإسلام السياسي عام 1979، مع الثورة الإيرانية، وكان لقاء منذ الوهلة الأولى عدوانيا، كانت شرارته مع اقتحام السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز أكثر من ستين موظفا دبلوماسيا لمدة 444 يوما إلى أن انتهت ولاية كارتر وتولي ريغن رئاسة البيت الأبيض، ثم ازدادت حدة الصراع مع أحداث تفجير السفارة الأمريكية في بيروت ومقتل أزيد من 300 ضابط من المارينز على يد حزب الله عام 1983.
منذ ذلك الحين استحكمت العداوة بين إيران والأمريكيين، لكن العلاقة مع الحركات الإسلامية السنية كانت خاضعة للمنطق الواقعي والبراغماتي، شهدت في بعض الفترات تقاربا أدى إلى استغلال الولايات المتحدة للنزعة الجهادية والاستعداد الطبيعي للعنف لدى الإسلاميين في حربها ضد السوفييت في أفغانستان، في المغرب كان التيار الاسلامي بأكمله معبأ خلف الولايات المتحدة للجهاد في بلاد الأفغان والقيام بما هو عندهم أقدس المقدسات وذروة سنام الإسلام، كان عبد السلام ياسين يجمع التبرعات وينشر الصور والمقالات الدعائية لحرب الأفغان في مجلة الجماعة، وكان عبد الكريم مطيع يرسل المجاهدين من منفاه في السعودية.
ساءت العلاقة بعد ذلك بين التيار الإسلامي السُّني والولايات المتحدة بعد زوال عدوها الأول وانتهاء الحرب الباردة، وأصبحت تتمتع بسيطرة مطلقة في الشرق الأوسط فاصطدمت بفورة الجهاديين العائدين من أفغانستان لمواصلة الجهاد، انتهت بأحداث 11 سبتمبر وغزو العراق الذي دشن مرحلة جديدة في التعاطي مع المسألة الإسلامية.
لقد ظن الأمريكيون أن الاستراتيجية التي وضعها صناع القرار الأمريكيون والقائمة على قطبين؛ أحدهما الحرب على الإرهاب والثاني تعزيز الديموقراطية سيؤدي إلى إضعاف هذا التيار دون الاضطرار إلى التعامل مع جذور المشكلة، في عهد أوباما تصاعدت نبرة التطبيع مع الحركات الإسلامية والضغط على إشراكها في العملية السياسية، ظنا منهم أن ذلك كفيل بكسر سورتها وتدوير زوايا الدوغما الحادة.
لكنهم في حقيقة الأمر ساهموا في تقوية الراديكالية في المجتمعات، وأصبحت التيارات الإسلامية أكثر قوة وجماهيرية دون أن تغير من قناعاتها الأساسية وقواعدها الأصولية؛ الحاكمية(الشريعة) الولاء والبراء والجهاد المتصل إلى يوم الدين(دفعا وطَلَبا)، بعد 2011 ومع ظهور الحركات الجهادية الثورية، وانبثاق مباغت لبروتوتايب الدولة الإسلامية(داعش) التي ينشدها الإسلاميون منذ انطلاق حركة حسن البنّا؛ تكون هذه الاستراتيجية أبانت عن فشل ذريع على مستوى النتائج المتوخاة، فالديموقراطية المطلقة والمثالية كما هي في الغرب؛ تعد انتحارا مدنيا في البلدان الإسلامية، ولا تأتي إلى الحكم إلا بمن يعتبرها أداة ظرفية انتقالية، وتكتيكا مرحليا.
لقد دربت معاهد سياسية في الولايات المتحدة عناصر من حزب العدالة والتنمية على الممارسة الديموقراطية وتطوير المهارات الانتخابية في لقاءات مدعومة من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وفِي عام 2006 زار رئيس الحكومة الحالي سعد العثماني أمريكا في إطار برنامج الزائرين الدوليين الذي أشرفت عليه وزارة الخارجية الأمريكية، وحاضر في معهد كارنيجي، كما أن عبد السلام ياسين قام بزيارت خاصة إلى الديار الأمريكية عام 2005 و 2006 لتعزيز علاقته مع الأمريكيين.
ورغم أن كتب ياسين الموجهة للحصيص العام ملأى من الجهة النظرية بمعادات الولايات المتحدة والغرب، فإنه عمليا يُمالئ الأمريكيين الذين يقدمون له الدعم المادي والمعنوي للاستقواء بهم على النظام في المغرب، وفي 2011 رصدت الجهات الأمنية لقاءات مشبوهة لأعضاء من الجماعة مع بعض المسؤولين الأمريكيين.
إنها أزمة فهم كبيرة، فالغربيون ومعهم بعض التيارات المعارضة في المغرب يسارية وحقوقية في الغالب؛ ينظرون إلى المعارضة الإسلامية بمنظور كوني، يدخلونها غلطا في منظومة المعارضة الديموقراطية، نوع من التجريد التام والانفعال الأتوماتيكي للمبادئ والحقوق، القاعدة الشعبية العريضة لهذا التيار في حد ذاته تشكل عاملا مغريا بالنسبة لمنظمات غربية ونشطاء حقوق الإنسان وبعض شراذم اليسار الغوغائي (النهج الديموقراطي مثلا)- يجعلهم يتعاطون معها على عَمِيّة تامة عن عواقب إضعاف الدولة لحساب هذا التيار المتشدد، فتكون النتيجة في الدول التي يسقط فيها النظام؛ قيام نظم إسلامية ثيوقراطية فاشية تضطهد هؤلاء الحقوقيين أنفسهم وتنفيهم إلى الخارج.
والغريب في الأمر، أن المغرب الدولة التي تعد بشهادة الغرب دولة تعيش فترة انتعاش في الحريات وانتقال حقيقي نحو الديموقراطية؛ هي أشد الدول تعرضا للنقد والهجو الحقوقي من جهات خارجية وداخلية، ولا يكاد أحد من المعارضين في الداخل يملأ جوفه إلا التراب، فكل ما يراه هؤلاء في البلاد استبداد مستحكم وسواد ومطلق، لدرجة أن أحد الصحفيين (توفيق بوعشرين) في مقال يقرأ لنا فيه الطالع من قاع فنجان عام 2018، لم يقرأ فيه إلا الكوارث والصدمات، ولم ير رغم عيونه الأربعة شيئا إيجابيا يستحق التنويه، على نغمة مفقود مفقود مفقود…
وهذا ضربٌ من الصحافة التي تقتات على صناعة التبخيس، فإن تخمة الأمن الذي يعيشه المغاربة في عالم يفور بالإرهاب وينفث الدماء على مدار الساعة،يجعل الإنسان يتقيؤ الأمن من شفتيه ويبصق نعمة الاستقرار تحت رجليه، ويرنوا إلى مجتمعات الفوضى والجثث المتحللة والأحشاء المُنْدلِقة على الطرقات، والحقيقة أن كثيرا من هؤلاء الكتاب لهم لحى تنبت إلى الداخل، فلا يظهر حقيقة انتمائهم إلا في لحْنِ القول وبين ثنايا السطور، والمقال الذي لا يرتع فيه صاحبه في مراتع اليأس والتبخيس لا يستنبت به ما يرجوه من الدراهم.
نلاحظ أيضا تزايد الاستغلال المغرض للقضية الفلسطينية من طرف الإسلاميين، خصوصا جماعة العدل والاحسان لكسب التأييد الشعبي والجماهيري على حساب الدولة، تتمدد هذه الجماعات اجتماعيا بتسخير خطاب شعبوي يبتز مشاعر الإحباط في المجتمع، ومن هنا يتموقع هذا التيار في المجتمع كبديل وحيد للتغيير، يروج لنظرية الخلاص الإسلامي التي تلقى قبولا في الأوساط الشعبية والطبقات الكادحة، العصا الموسوية القادرة على صنع المعجزات وفتح أبواب السماء ليأكل الناس من فوقهم وتحت أرجلهم.
ورغم أن هذا التخيل السوريالي سقط سقوطا ذريعا على يد الإخوان المسلمين في مصر، وسبب حرجا بالغا للمشروع الاسلامي في الدول العربية، فإن التيار الإسلامي خارج مصر، أو الذيول التابعة له في شمال إفريقيا؛ تحاول الفصل بينها وبين التجربة الإسلامية البئيسة في المشرق.
من يكره الديموقراطية والحريّة؟، جميل أن ندعو إلى الملكية البرلمانية وملك يسود ولا يحكم، الملك نفسه سيجد مندوحة عن أعباء الحكم، ويعيش كملوك بريطانيا والدنمارك بعيدا عن منغصات السياسة وآفات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لكن ليس هذا وقت هذه الدعوة على الإطلاق، قد يبدو هذا للبعض قولا ثقيلا، لكنه عين العقل وتمام الحكمة، لابد في الزمن الذي فيه سيطرة شبه مطلقة للإسلاميين على الشارع، من دعم سلطة شبه تامة للملك، لابد من موازنة الدولة في هذا الصراع غير المتكافئ بين طوفان الإسلاميين وحفنة من دعاة الديموقراطية والدولة المدنية، دون المخزن سيسحقونهم بالأقدام والأمثلة ماثلة للعيان.
لا مناص من التحلي بالواقعية إذا، والقراءة المتجردة والعقلانية لواقع مجتمع تلعب فيه الراديكالية وأنصار التطبيق الحرفي للشريعة دورا مركزيا في عقيدة الشارع الذي هو مناط الانتخاب وسيد الصناديق، إذا تخلى المخزن عن مواقعه وتنازل الملك عن سلطاته، فإن المجال التشريعي سيكون مفتوحا على أسوء السيناريوهات وأشدها دراماتيكية، ولا يمكن حينئذ أن يحتج أحد على نتائج الديموقراطية؛ لأن الكلمة بيد الشعب والشعب سواده في يد الإسلاميين.
لابد من كل هذه الظواهر التي تبدو للوهلة الأولى استبدادا مخزنيا لكنها في الحقيقة تحمي الدولة من تغول الرجعية، لابد من تدخل المخزن في موازنة الانتخابات لأنها في صالح الدولة المدنية، لابد من"الخروقات" غير الديموقراطية لأنها تمنع كثيرا من المتسللين إلى دواليب الإدارة وأروقة المؤسسات قصد أسلمة الدولة و"خونَجتها"، الإسلاميون اليوم يحاصرون الدولة من الداخل والخارج، في الحكومة في حضن البرلمان، وخارجها في المعارضة الشعبوية الرافضة للعمل السياسي، في الإعلام الرقمي ومنظمات المجتمع المدني، وبينهما تكامل وتبادل للأدوار، إنهم في كل زاوية وفِي كل مكان…
في غياب حراك ثقافي ليبرالي ومدني، وفشل ذريع للمثقفين والمفكرين التنويريين في اختراق الطبقات التي يسيطر عليها الإسلاميون أو التي هي في طور الاحتواء والاستلاب الأيديولوجي؛ تكون الدولة والمؤسسة الملكية والإسلام الرسمي هي السد الأوحد في صد طوفان الهمجية، في نفس الوقت يجب اعتماد دينامية ناجعة لبث الروح العلمية ومؤازرة حركة التثقيف وتطوير مناهج التعليم؛ لإضعاف التيار الراديكالي الذي ينمو ويتكاثر في المنظومة البيئية التي يسود فيها الجهل والأمية.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.