اسماعيل الحلوتي
يعود محمد الصديقي القيادي بحزب العدالة والتنمية الإسلامي وعمدة مدينة الرباط، الذي سبق أن شغلت الرأي العام المحلي والوطني، قضية إدلائه بشهادة طبية مشكوك في صحتها لإدارة شركة "ريضال" بدعوى عجزه عن مواصلة العمل ضمن أطرها مقابل الاستفادة من تعويضات خيالية، إلى إثارة ضجة أخرى عارمة عبر مختلف وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، من خلال الإعلان عن عزم مجلس جماعة الرباط تخصيص حافلات وردية للنساء، مؤكدا في معرض كلمة ألقاها يوم 20 دجنبر 2017 بمناسبة اختتام الحملة الوطنية الخامسة عشرة ل"وقف العنف ضد النساء"، على أن هذه المبادرة اعتمدت في عواصم بلدان متقدمة، وأن من شأنها الحد من تنامي العنف ضد المرأة، وجعلها في مأمن من أي تحرش ممكن، خاصة في أوقات الذروة.
وهو بهذ التصريح المستفز يكون قد أثبت شروده وكشف عن قصر نظره، بحصره موضوعا شائكا وبهذه الدرجة من التعقيد في زاوية ضيقة، في حين أن المشكل أكبر من أن تحله حافلات نقل بألوان زاهية، لما له من تشعبات كثيرة وتداعيات خطيرة، يستلزم رؤية واسعة ومعالجة دقيقة وعميقة وفق مقاربة تشاركية فعالة، تستمد قوتها من برامج دراسية حديثة والتربية على المواطنة والقيم الأخلاقية الرفيعة وإفراد نصوص قانونية رادعة.
فالمرأة المغربية تتعرض للعنف ليس فقط في حافلات العاصمة، بل في كل الفضاءات العمومية بمختلف المدن، مما بات يدعو إلى القلق ويبث الرعب في النفوس أمام ارتفاع نسبة الإجرام وتعدد منعدمي الضمير من المتحرشين بالنساء، ويقتضي الأمر أن تتجند جميع فعاليات المجتمع من أحزاب ونقابات ووسائل الإعلام ومدرسين وأئمة المساجد وسلطات حكومية... والتصدي له بما يلزم من حزم، بوضع سياسة مندمجة ونشر قيم إنسانية سامية في ظل مناخ عام من التكافل والتكامل بين المواطنات والمواطنين، وسن قوانين زجرية ووقائية لحماية المرأة من كافة السلوكات الرعناء، بعيدا عن تلك الحسابات الضيقة والمزايدات السياسوية، وتلك النظرة البئيسة التي لا تتجاوز أرنبة أنف عمدة الرباط ومن يقفون خلفه...
من هنا يتضح أن ما اعتبره فهيم زمانه "مبادرة" بتوفير حافلات نسائية، ينم عن عقلية رجعية، تهدف إلى فصل المرأة عن الرجل باعتبارها فتنة، وتكشف لنا عن أنه مازال بيننا أناس ينظرون إلى المرأة بصفتها مجرد غاوية للرجل، تعمل على جره إلى ارتكاب المعصية،مما يتعين معه إبعادها عنه، ناسين أنها أمست تمتلك قدرات عالية وتشاركه بفعالية في جميع القطاعات: التعليم والصحة والإدارة والأمن والصحافة... فالعبرة ليست بتخصيص حافلات وردية أو "دلاحية"، بل بتغيير العقليات وإيجاد الحلول الجذرية الحقيقية، عوض تلك الحلول الترقيعية التي لن تؤدي إلا لإذلال المرأة والرجل معا، حيث تفقد المرأة إنسيتها وتحولها إلى "فريسة"، ويصبح الرجل مجرد كائن متوحش يبحث لنفسه عن إشباع غرائزه وإفراغ مكبوتاته.
ولا نعتقد أنه يوجد في تاريخ البشرية دين أو حضارة إنسانية، أولت المرأة اهتماما أكثر مما منحها الإسلام، إذ أكد على مكانتها في المجتمع ورفع من شأنها ومتعها بكل الحقوق الإنسانية الضرورية. في حين لم تجد كرامتها وسعادتها في أرقى أمم الأرض، إذ كانت مجرد سلعة تباع وتشترى أو إرث يورث أو جسد يمتهن. وكما نظر إليها ديننا الحنيف على أنها شقيقة الرجل، خلقا ليسعد كل منهما الآخر، مصداقا لقوله تعالى في الآية 1 من سورة النساء: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما نساء ورجالا"، جعلها كذلك مساوية له في كثير من الواجبات الدينية، وتقول الآية 124 من السورة نفسها: "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نفيرا"، وما من تكريم لها أكثر من حسن تربيتها وتعليمها وحمايتها من مختلف ألوان الظلم والقهر...
ترى لم يصر "البيجيديون" على تبخيس قدرها والحط من كرامتها؟ فبعد أن كان ابن كيران رئيس الحكومة والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، شبه النساء في إحدى الجلسات العامة بمجلس المستشارين ب"الثريات" اللواتي بخروجهن للعمل انطفأت البيوت وغاب الدفء عنها". جاء العمدة الصديقي بمقترح فصلها عن الرجل في الحافلات. ألا يعلمون أنها بفضل جهودها الجبارة استطاعت أن تتبوأ مناصب اجتماعية واقتصادية وسياسية عالية، وأنه لم يعد ممكنا فرض الوصاية عليها واضطهادها نفسيا وجسديا وتهميشها وإقصائها. فهل قدرها السفر الأبدي في رحلة مهينة، تبدأها بالخروج من سجن الأب لتدخل سجن الزوج ثم عزلها في الحافلة، وربما مستقبلا في القطارات والمستشفيات ودور السينما والأسواق والمدارس والجامعات والشوارع...؟
إنه لمن الموجع حقا أن يزيغ بصر المسؤول عن مكامن الخلل عند محاولته معالجة قضية ما، فإيقاف العنف ضد المرأة لا يتأتى بفصلها عن الرجل في الفضاءات المفتوحة والمغلقة، وإنما بتوفر إرادة سياسية قوية للقطع مع تلك النظرة الدونية لها، بإطلاق مبادرات حقيقية تقلص معدلات الفقر والأمية والبطالة، تصون حقوقها وتحفظ كرامتها وتعزز دورها في المجتمع كعضو فاعل. مراجعة البرامج الدراسية وتطويرها، غرس قيم جديدة في أذهان أطفالنا، إقرار مبدأ المناصفة وتحقيق المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، الحد من كافة أشكال التمييز ووضع قوانين تجرم العنف وتتوافق مع المواثيق الدولية. ألم تساهم المرأة في بناء الحضارة المغربية بإنتاجاتها الفكرية والعلمية والأدبية الوفيرة؟ فكفوا عن الانتقاص من قيمتها.