سليمة فراجي*
بدل التباكي والتعاطي مع المعضلة بالمسكنات، ورفع الشعارات والمزايدة بالمآسي والأحزان، وتشكيل اللجان التي يعقبها تكريس إبقاء ما كان على ما كان في انتظار مرور العاصفة والهبّة الشعبية، لا بد أن نشخص مأساة مدينة أو بالأحرى شبح مدينة تم اكتشاف حوض الفحم بها سنة 1927، وتم الشروع في استغلال الفحم الحجري anthracite بها سنة 1936، تم استغلاله من طرف دول غربية كبلجيكا وفرنسا لتحل محلها شركة مفاحم المغرب، التي كانت تشغل حوالي 7000 عامل من مختلف جهات المملكة يتكفلون بضمان عيش أزيد من 60000 فرد، ويشتغلون في ظروف صعبة، ويسكنون في الحي المغربي، في المقابل يسكن المهندسون والمدراء والأطر في الحي الأوروبي الذي يشبه بناء المساكن فيه إلى حد بعيد معمار الاستعمار الفرنسي. عمال أصيب جلهم بمرض السيليكوز المهني أو مرض تغبر الرئة نتيجة الاستنشاق الدائم لغبار السيليس، الفحم المستخرج من باطن الأرض.
كما أن حوادث الشغل نتيجة انهيار الآبار الباطنية أو أعطاب الأحزمة الناقلة ومختلف الحوادث المأساوية، التي يتذكرها شهود على العصر، تشهد على كثرتها ملفات حوادث الشغل التي كانت رائجة بالمحاكم الاجتماعية، كما أن عدد ملفات المرض المهني وتفاقم العجز الدائم المؤدي إلى الوفاة شاهدة على حقبة سوداء خلفت وراءها الأرامل والأيتام، الذين استفادوا من إيراد سنوي عمري بمثابة ذكرى للأموات شهداء الفحم الحجري، الذين كانوا يموتون الموت البطيء لاستفادة مدن مغربية وأخرى خارجية من الطاقة المستخرجة.
تلك هي الوضعية التي عاشها ويعيشها عمال المناجم عبر العالم، الشيء الذي جعل التيار العالمي يتحول إلى البحث عن الطاقات النظيفة أو الطاقات المتجددة بدل الطاقة الأحفورية، التي تتسبب في تلوث البيئة وإلحاق مختلف الأضرار بالإنسان والطبيعة وثقب غشاء الأوزون. وقد كان بالإمكان منذ الاتفاقية الجماعية المؤرخة في 1998، والمبرمة عقب اتخاذ قرار إغلاق المنجم نظرا لعدم مردوديته وسوء التسيير وكثرة الإضرابات وتفاقم الأمراض المهنية، والتي تم توقيعها بين الحكومة والنقابات، إيجاد حلول تنموية بديلة لما تبقى من مدينة أو مدينة شبح، خصوصا أن التعويضات الممنوحة للعمال آنذاك، التي تم وصفها بالزلزال الذي أصاب ميزانية الدولة، كان بالإمكان أن تواكبها عملية تأطيرية حتى يتم استثمار الأموال في مشاريع تنموية ومدرة للدخل وخلق فرص للشغل وإعادة تأهيل العمال. عشرون سنة مرت على الاتفاقية الجماعية ولا يتم الاستماع إلى آهات وأنين المعذبين في الأرض إلا عند انتفاضة الساكنة بسبب الموت المفجع لمن يلقى حتفه داخل الآبار الباطنية وهو يستخرج الفحم بطريقة غير مشروعة من دهاليز أو ساندريات الموت cendriers des بغرض بيعه للمحظوظين بثمن بخس، لسد الرمق ومواجهة الفقر المدقع. عشرون سنة مرت ونحن نتباكى ونأمل في إيجاد الحلول البديلة، علما أن الخطاب الملكي التاريخي المؤرخ في 18 /2003/3 كان صريحا في طريقة التعامل مع الإقليم المنكوب والسهر على تنميته ورفع الحيف والإقصاء والتهميش عنه عن طريق منحه الأهمية والعناية القصوى بغرض إدماجه في مشاريع تنمية أقاليم الشمال، الشيء الذي لا يتأتى إلا من خلال إنشاء مصانع لتشغيل الساكنة وجلب الاستثمارات، والكل يتذكر قمة المناخ بمراكش وما تم عرضه من أفكار حول الانتقال من الطاقة الأحفورية إلى الطاقة النظيفة، وكنا نتمنى أن ترد علينا أفكار ورؤى مستقبلية تفيد الإقليم، الذي يتوفر على جميع المؤهلات، من شمس وماء ورياح، عبر برمجة وإنجاز مشاريع تخص الطاقة البديلة، تتمثل في مصانع للوائح شمسية photovoltaïque وغيرها من معامل ومصانع تخص هذا الميدان، مع تخفيض أو إعفاء من الرسوم عن استيراد المواد والآلات المخصصة للطاقات المتجددة، خصوصا الشمسية والريحية solaire et éolien، لتشجيع المستثمرين في هذا المجال من أجل تحويل الإقليم، الذي عانى ويعاني من تراكمات الفحم الأسود وقتامته قتامة قلوب منعدمي الضمير، ومخلفاته، وكأنه يعيش في القرون الوسطى، في ظل صمت السلطات خوفا من البلبلة، واغتناء المحظوظين، والفساد المستشري، وعدم تنفيذ الوعود، إلى إقليم تميز بمناجمه فيما مضى، إلى إقليم يتميز بثورة صناعية حديثة، والقضاء على مخلفات الماضي المتمثلة في الفقر المدقع والمرض المهني والموت البطيء وتراكمات الفحم الأسود الشاهد على سواد حقب قاتمة.
وبما أن عشريتين مرتا على الاتفاقية الجماعية ولا آذان لمن تنادي بخصوص تحقيق المشاريع التنموية للإقليم، الذي لا يتم الانتباه إليه إلا عند وقوع حادث مفجع مأساوي يتمثل في وفاة المنقبين عن الفحم في آبار الموت، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها جهة الشرق لا يسع مدينة جرادة إلا أن تستنجد وتصرخ: واملكاه!
*نائبة برلمانية سابقة