-1-
بعد تسعينيات القرن الماضي (العشرين) اتخذ الإرهاب، كما لمسنا ذلك في الأحداث المتتالية خلال العقود الأخيرة، أبعادا إقليمية ودولية رهيبة، تجاوز حدوده المحلية، وتجاوز استهدافاته المحدودة، وأصبح ظاهرة دولية بلا حدود تستقطب السياسة والاقتصاد والدين والثقافة، إلى درجة أصبح من الصعب على الأنظمة والحكومات والهيئات القانونية تحديد مفهومها أو ماهيتها.
ولكن مع ذلك هناك تصور / تصورات لمكافحة هذه الظاهرة المحيرة يستمد بعضها مرجعيته من القوانين والاتفاقيات الدولية التي استهدفت وضع أسس لمكافحة الإرهاب، ويستمد بعضها الآخر مرجعيته من واقع الإرهاب نفسه، إلا أن التصور الأمريكي الذي أملته أحداث 11 شتنبر 2001 قد ألغى كل ما قبله، وجعل العالم مكرها على الأخذ بتصوره الوحيد.
فبعد هذه الأحداث لم تتجه أمريكا إلى تحديد الإرهاب الذي ضربها في العمق، كما لم تأخذ بالدعاوى التي صدرت عن أطراف مختلفة لعقد مؤتمر دولي، على ضوء الاتفاقيات والقرارات الدولية لمكافحة الإرهاب، ولم تصغ إلى صوت العقل، وتعمل على حل الصراعات والنزاعات التي يعمل فيها الإرهاب بالقانون الدولي، مفضلة العمل بشكل انفرادي في مواجهة معضلة الإرهاب التي أخذت أحجاما لا يتصورها العقل.
وفي إطار خطتها الانفرادية، رفعت الإدارة الأمريكية، ليلة "الثلاثاء الأسود" الشهير، مبدأ (من ليس مع أمريكا في خطتها ضد الإرهاب فهو ضدها) وأظهرت الوجه الخفي لدبلوماسية القوة، التي تؤكد رغبة واشنطن في الهيمنة على الساحة الدولية التي هزتها انفجارات 11 شتنبر، بما يلزم من القوة والإرادة.
وفي نطاق هذه الخطة، أعلنت واشنطن "إستراتيجية" لمحاربة الإرهاب (تكلف بإدارتها مكتب الأمن الداخلي الذي أحدثه الرئيس بوش الابن مباشرة بعد أحداث "الثلاثاء الأسود"، وهي خليط من الإجراءات، منها ما هو عسكري، ومنها ما هو اقتصادي وأمني وقانوني وسياسي، ومنها ما ستكلف بتنفيذه حلفاءها ضد الإرهاب.
ويمكن إيجاز هذه الإستراتيجية في أربع نقاط كبرى:
في ما يتعلق بتنظيم القاعدة وزعيمها، القضاء بشكل نهائي على معسكراتها واعتقال زعيمها ومحاكمته عسكريا، واعتقال ومحاكمة كل أعضاء هذا التنظيم.
وبعد هذا "الإجراء" متابعة الحرب لهزم وتوقيف كل مجموعة إرهابية قادرة على توجيه ضربة في أي مكان من العالم.
مطاردة الدول التي تساعد الإرهاب أو تؤويه، وفرض الشعار الذي رفعه الرئيس بوش (الابن): "إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهاب" على كل دول العالم.
وعمليات هذه الحرب تتضمن ضربات ضخمة ينقلها التلفزيون وعمليات ستبقى سرية حتى في حالة نجاحها.
-2-
هكذا يمكننا أن نلاحظ بجلاء أن الإستراتيجية الأمريكية المعلنة ضد الإرهاب، يتنازعها مفهومان متباعدان وواسعان للإرهاب.
1)- مفهوم يدعو إلى اعتبار المرحلة الراهنة بيئة صالحة لـ"توازن المصالح" والحلول السلمية للصراعات والمنافسة الاقتصادية الحرة، وتحقيق الديمقراطية والسلم الأهلي، واحترام حقوق الإنسان والشعوب، وليس جواز التدخلات الإنسانية فحسب بل ضرورتها. ويكاد يعتنق هذا المفهوم الغرب عامة وقوى المجتمع المدني وحكومات عديدة في أنحاء العالم.
2)- ومفهوم آخر تعبر عنه الجهات المتضررة من انتهاء الحرب الباردة، والمعادية للسلام والتطور، والعاجزة عن رؤية الحقائق الجديدة على الأرض، وقوى التصنيع العسكري وكارتيلات الإنتاج الحربي – في الغرب والشرق – والحركات الأصولية، وبقايا الحركات النازية والفاشية، ومخلفات أجهزة الحرب الباردة في بعض البلدان – الشرقية- والمؤسسات الأمنية، والمتاجرة بالسلاح بما فيه أسلحة الدمار الشامل التي خلفتها مخازن ومصانع السلاح في بعض تلك البلدان.
بذلك تنزع هذه الإستراتيجية إلى اختيار حرب غير محدودة بالزمان أو المكان والأهداف، بعيدة عن قيم وقوانين وقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو أي محكمة دولية، تجنبا للضوابط القانونية والأخلاقية والعسكرية؛ ما يجعل منها – في نظر العديد من المراقبين- إرهابا معولما بامتياز، إذ تسمح لأمريكا بممارسة القوة المنفلتة وغير المتوازنة مع الهدف والخصم، ومع كل من لا يذعن لخططها ومطالبها الأمنية في العالم.
-3-
القراءات السياسية والعلمية لإستراتيجية أمريكا ضد الإرهاب تؤكد بوضوح وشفافية أنها اتجهت إلى الحرب ضده دون البحث في الأسباب التي أدت إليه أو التوقف عندها.
ففي نظر العديد من الباحثين أن أحداث 11 شتنبر 2001، التي أدت بأمريكا إلى ابتداع هذه الإستراتيجية، لا تزيد عن كونها رد فعل قوي ضد ممارسات الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من الدول، إما مباشرة أو عن طريق عملائها من الأشخاص أو الأنظمة.
كما أن المسؤول الأول والأخير عن أحداث واشنطن / نيويورك / 11 شتنبر 2001 هو سياستها الخارجية التي وضعت العالم كله ضدها، بعدما تقوقعت على مصالحها؛ وبعدما رفضت الحوار والتداول في شؤون العالم الجديد، وبالأحرى في شؤون المجتمعات التي تلفها الأزمات الداخلية والخارجية من كل جانب. فهذه السياسة / الأمريكية سمحت لنفسها بخلاف كل المعايير، واتخاذ مواقف التأييد غير المشروط لإسرائيل في حربها العدوانية ضد العرب لاستكمال احتلال الأراضي الفلسطينية، وهي المسؤولة عن عدم اتخاذ أي إجراء يمنع حليفتها الصهيونية من الاستمرار في سياسة العنف والقتل والإرهاب والتمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني، وعن احتلال العراق وتجويع شعبه وتمزيق وحدته ونظامه؛ وهي المسؤولة أيضا عن الغطرسة والاستفراد بالرأي والقرار واتباع سياسات غير متوازنة، تهدد مصالح المجتمع الدولي.
في نظر العديد من المحللين السياسيين أنه كان على الولايات المتحدة الأمريكية، قبل إعلان إستراتيجيتها لمكافحة الإرهاب، مراجعة شاملة وعميقة لسياساتها ومواقفها تجاه المجتمعات العربية والإسلامية؛ ذلك لأن إعادة النظر في هذه السياسات والمواقف هي أهم الخطوات المطلوبة، وأكثرها نجاعة وأقربها لتحقيق الهدف، إذ كان ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسحب دعمها للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وأن تطالب بوضع نهاية له بعد أن ندد به المجتمع الدولي واعتبره عملا غير قانوني. وكان على الولايات المتحدة أن تقبل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة خاصة بهم عاصمتها القدس، وهي المدينة المقدسة في نظر جميع المسلمين. وإذا ما بدا مثل هذا الإجراء مستحيلا في السياسة الأمريكية، نعود فنقول إن المستحيل قد صار ممكنا، وإنه آن الأوان لأن يقوم كل من موقعه بإجراء محاسبة ذاتية والسعي إلى تصويب ما هو خطأ.
ويرى العديد من الباحثين أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تتأمل بترو في ما تتحمله من مسؤولية تجاه مشاركتها في خلق "الإرهاب" الذي أصابها الآن في عقرها. أفلا ينبغي على الولايات المتحدة أن تجيبنا عن دورها في دعم "الإرهاب"، سواء من خلال تكوين مثل هذه الشبكات لتحقيق حاجات في نفسها أو من خلال دعمها لأنظمة الحكم السلطوية التي ترعب شعوبها؟ هل سيكون هناك نقد جاد للأسلوب الذي انتهجته الولايات المتحدة، حالها في ذلك حال أنظمة عربية عديدة، في استخدام المتطرفين لأغراضها الخاصة والتخلي عنهم لاحقا؟ وكيف صنعت الولايات المتحدة أسامة بن لادن وكلفته بمهمة تمويل وتنسيق تحرير أفغانستان من استعمار الاتحاد السوفييتي، فكان من ثمار ذلك ظهور"الثوار الأفغان" الذين يشكلون العمود الفقري للعديد من الشبكات الإرهابية؟ ها نحن الآن نشهد المفارقة المضحكة حينما تطلب الولايات المتحدة من روسيا الانضمام إليها في حملتها لاستئصال القوات نفسها التي كانت قد أوجدتها قبل عشرين عاما لمحاربة الروس. أفلا يشير ذلك إلى حاجة الولايات المتحدة إلى بعض التأمل والمراجعة الذاتية قبل أن ترتدي زي الصليبيين معلنة الحرب ضد الإرهاب؟.
-4-
مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض بالولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت هذه الإستراتيجية المؤلمة هي الباب الكبير الذي تدخل منه أمريكا لمواجهة الإسلام والمسلمين، باسم مكافحة الإرهاب والإرهابيين، وهي الباب نفسها التي سيخرج منها "أبو جهل" بعد حين.
أفلا تنظرون...؟