*عبدالرحيم زيكوك
لا تنتظر عزيزي القارئ أن أحدثك عن تاريخ النظريات التي قاربت إشكالية الفلسفة والتربية، لأني أدرك أن عالم الرقميات يوفر لك ما يكفي من المعلومات التقنية التي يصعب حصرها؛ كما أن الكتابات الإحصائية حول الموضوع وصلت حد الثمالة. لذلك، وجدتُ نفسي مُلزما بالتفكير معك في مستوجبات الحديث عن أهمية الفلسفة لتحقيق الغاية المثلى من التربية.
قبل البدء، لا حرج في التأكيد على أن معظم الفلاسفة الذين فكروا بجد في مسألة التربية، فكروا فيها كحقل إجرائي لشكل المدينة/ الدولة التي ينبغي أن يعيش فيها الإنسان المواطن الذي يحظى بالموطنة الحقة.
إن التربية إذن، هي الأداة التي نتوسل إليها لبناء المواطن الذي نريده والمجتمع الذي نتوخاه.
إذا كانت الفلسفة سياسة كبرى تجعل من مسألة التربية أفقا لبناء دولة عادلة، كما تتخذها كوسيلة ناجعة لتأسيس المجتمع المفعم بالحياة، المجتمع القادر على احتضان الجميع بدون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الانتماء الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي؛ فهي بذات الوقت محاولة أكيدة لدرء مفاسد السياسة الصغرى، السياسة السياسوية التي يتمسك بخيوطها “مسؤول” يعوزه بُعد النظر، لأن ثمة غِشاوة أحجبت عنه الرؤية الصحيحة، غشاوة تتشكل طبقاتها اللامرئية من هوس التسلط و سيطرة الشهوة: شهوة المال، وغريزة الاستبداد. كل ذلك، يدفع صاحب السياسة الصغرى إلى تأسيس شروط الاستغلال؛ استغلال الإنسان خدمة لمصالحه الضيقة.
إن السياسي الذي يأتمر بشهوته، و يتحرك بتأثير عشقه الشديد للتسلط، تجده “يفكر” ليل نهار في بناء أنساق إيديولوجية يكون هدفها تبرير الاستغلال، و غرس قيم الخنوع و التبعية في نفوس الطفل/ المواطن. وتعتبر المدرسة في نظره أول قلعة ينبغي استهدافها لزرع سمومه في عقول الناشئة، وينتقل بعدها إلى قلعة الإعلام كحصان طروادة لتخريب الأسر ونشر الأوهام و المغالطات.
نحن إذن أمام نمطين من التفكير في موضوع التربية:نمط سياسوي، يدفع المجتمعات إلى الانهيار وخوض الحروب بكل أشكالها؛ والنتيجة المنتظرة لهذا النمط هي لجوء الأفراد إلى العنف كوسيلة “مألوفة” لضبط التوازنات داخل محيطهم، سواء داخل الأسرة، أو المدرسة، أو الإدارة، أو الشركة، أو الملعب، بل حتى داخل الشارع … عنف قد يتخذ شكلا رمزيا، وقد يتطور إلى عنف مادي في أي لحظة. مما يعني أن سيطرة العنف مؤشر واضح عن دخول المجتمع في أزمة حوار، أزمة قيم…
هو ذا المجتمع/المواطن الذي يريده أصحاب السياسة السياسوية بعيدا عن الاختفاء وراء الشعارات؛ فالتربية ناجحة في نظرهم لأنها حققت لهم المبتغى: ترسيخ شروط الاستغلال.
أما النمط الثاني، فهو نمط فلسفي يؤدي دور السياسة الكبرى يكون هدفه تنشئة الإنسان المواطن وفق نظرة عقلانية متكاملة. لتكون النتيجة المنطقية لمثل هذا الأسلوب التربوي هي تكوين إنسان منخرط في بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي التنويري الذي يندمج فيه الشخص اندماجا كاملا، لأنه خضع لتربية عقلانية تنمي في نفوسه حس الإبداع والخلق والتجديد… لكون عقله مُكون وفق طرق برهانيه حجاجية تتخذ من النقد والمساءلة أداة للتفكير. هي ذي الملامح الكبرى للمجتمع/المواطن الذي تسعى إليه الفلسفة كسياسة كبرى.
لندلل على ما سبق بنموذج من التاريخ، أوجب ضرورة التربية المُمأسسة وفق قواعد مضبوطة؛ بعيدا عن الارتجالية لتفتادي الفوضى و العبث. فهذا أفلاطون، لاحظ أن إعدام سقراط مؤشر على تآكل المنظومة القديمة التي يكون هدفها استغلال الإنسان. فقد رأى أن الجماهير/ الغوغاء التي صوتت لصالح قرار الإعدام كان بإيعاز من رجالات السياسة الصغرى التي لا تهمها الحقيقة كانكشاف بقدر ما تهمهم الحقيقة كصناعة “التزيف والتضليل” كاستراتيجية للتسلق في سلالم السلطة. مما استوجب على صاحب كتاب “الجمهورية” تأسيس الأكاديمية وتكوين نخبة فلسفية تقوى على التفكير في مقتضيات الحكم العادل تفكيرا فلسفيا عقلانيا. لذلك نجده يقر بضرورة التربية العقلانية.
لاغرابة إذن أن نعتبر أن التربية قضية سياسية في عمقها، وكل حديث عنها يقتضي تكوين موقف فلسفي قوي يجعل المصلحة العامة للمجتمع فوق كل حسابات سياسوية. فما نلحظه في مجتمعنا المغربي مثلا هو أن الحديث عن التربية لا يخرج عن الرهان السياسوي. إذ يتخذونها مطية لتدجين الشعب، خدمة لمصالحهم الاقتصادية و السلطوية… فتجد أكابر هذا التصور الضيق يُسخِّرون كل إمكاناتهم لاستبعاد كل محاولة تروم التفكير الجدي في مستلزمات التربية تفكيرا علميا موضوعيا وعقلانيا، لسبب بسيط، وهو الخوف عن خلخلة أساس تواجدهم.. لذلك يفصلون “قميص” التربية حسب مقاسهم.
لعل آخر ما يكتب فيه الفيلسوف هو التربية. وذلك، بعد أن يُكَّون نظرة كلية شاملة حول نظرية الوجود و المعرفة و القيم، بعد أن يدرس النفس البشرية و المحيط الاجتماعي للنشء و شكل الدولة الواجب بناؤها؛ وبعدها يأتي إلى حقل التربية كآلية إجرائية لما توصل إليه من أفكار عقلانية. بينما في واقعنا كل من أتى يريد أن ينظر للتربية دون خلفية نظرية واضحة فيسقط في التجريبية القاتلة!!
نقول اختصارا، إن التربية سُم وعلاج بذات الوقت، سُم حينما تكون بيد أصحاب السياسة السياسوية، وعلاج حينما تُسند مقتضياتها إلى أصحاب السياسة الكبرى/الفلسفة.
يبدو لي أن هناك ضرورة إصلاح واحد لبناء المجتمع الحداثي التنويري، هو مصدر كل الإصلاحات الأخرى: إصلاح التربية موجب لإصلاح البنيات الذهنية، موجب لإصلاح المدينة/ الدولة، موجب لضرورة الفلسفة كسياسة كبرى.
باحث متخصص في الفلسفة*